2- غموض دامي..
قال (علي):
- لقد بدأت القصة منذ حوالي أسبوعين عندما بلغ أحد المواطنين عن وجود قتيل في زقاق أحد الأحياء الفقيرة, و عندما ذهبنا للموقع وجدنا الجثة و قد تم التمثيل بها بشكل بشع, حيث قام القاتل بالعبث بوجه الضحية و كتب على الجبهة بسكينته ( و 7 ) عوضاً عن عدم وجود القلب أساساً في صدر القتيل.. و وجدنا كذلك رسالة تحت رأس الضحية تنص على " الأول من أربعة إلى اول.......".. لم نهتم كثيراً بالحرف و الرقم المكتوبان على جبهة الضحية بقدر اهتمامنا بتلك الرسالة الغامضة و التي تحمل رائحة طقوس غريبة و توحي بطبيعة ذلك المجرم السادي خاصة و أنه أنتزع قلب الضحية من صدره.. تم نقل الجثة للمستشفى العسكري لوضعها بالثلاجة إلى أن يأتي أحد أقاربه لاستلامه بعد أن تمكنا من التواصل معهم من خلال العنوان الذي وجدناه في بطاقة المجني عليه.. و بالفعل حضر أخوه لاستلام الجثة بعد إجراء الإجراءات اللازمة... و تم التحقيق في تلك القضية و سجلت أخيراً ضد مجهول.. لكن القصة لم تنتهي عند هذا الحد فبعد سبعة أيام من تنفيذ الجريمة الأولى جاءنا بلاغ بوجود جثة مشوهة كسابقتها في أحد الأحياء حيث كانت كذلك منزوعة القلب و قد كتب على جبهة القتيل ( د 6 ) و تحت الرأس الرسالة إياها لكن باختلاف بسيط حيث تنص على " الثاني من أربعة إلى اول........", هنا لم يمر الأمر مرور الكرام, فنحن أمام قاتل متسلسل ( Serial Killer) و لقد استدللنا على ذلك من أسم الضحية الثانية حيث كان أسمه (وليد), لذا عرفنا مغزى الحرف و الرقم الذين كُتبا على جبهة الضحية الأولى, فلقد كان الحرف الأول يشير إلى الحرف الأول للضحية القادمة و الرقم يمثل عدد الأيام التي ستنقضي حتى حدوث الجريمة التالية.. و استدللنا كذلك إلى احتمال وقوع جريمتي قتل حتى تكتمل الدائرة التي فتحها القاتل.. و بهذا الاستنتاج وصلنا لنتيجة مفادها أن الضحية الأولى الجديدة سيبدأ أسمها بالحرف (د) و ستُقتل بعد ستة أيام, فكان لابد من تحرك سريع و جدي, فبدأنا باستجواب جميع المشتبهين, لكن لا جديد حتى الآن.. فلا بصمات في مسرح الجريمة.. و لا أداة جريمة..
قلت و أنا أفرد ساقيّ اللتين تخشبتا من جلسة القرفصاء..
- هل كنت صائم عن الكلام في اليومين الفائتين؟!..
- لا, لمَ السؤال؟..
- أراك تتحدث لربع ساعة كاملة دون توقف.. ما عهدتك ثرثاراً قط..
أشعل (علي) لفافة تبغ و بدأ يأخذ نفس عميق قائلاً:
- أمرك غريب يا (اكرم).. بوووووووف ..في البداية تطلب مني أن أشرح لك القضية بالتفصيل.. كح كح كح كح.. و ما أن انتهي من شرحها.. كح كح.. حتى تتهمني بالثرثرة.. تناقض لا أستغربه منك..
- يا أخي ما دام التدخين يضرك إلى هذا الحد, فلماذا لا تمتنع عن التدخين؟..
- لقد حاولت, لكن الضغوط العصبية التي أواجهها في عملي تجبرني على التدخين.. لا أدري لماذا يُخيّل لي أن كل التوتر يذهب.. كح كح.. مع الدخان الذي أنفخه.. ثم أن نوبة السعال هذه لا تكون إلا في البداية فقط.. دعك مني الآن و أخبرني رأيك بالقصة..
عدت لجلسة القرفصاء و أنا أقول:
- قصة غريبة بالفعل.. فأنا أشتم فيها رائحة غير مألوفة عندنا في اليمن.. رائحة قاتل متسلسل يؤدي طقوس معينه لديانة وثنية لها إله يدعى (اول), و يعلم الله ما يكون (اول) هذا.. هل هو صنم أم حيوان أم شيء آخر... الشيء الذي أنا متأكد منه هو أننا أمام مجنون و أن الأيام القادمة ستكون عصيبة بالفعل..
- عندنا في القسم انقسمنا إلى فريقين, الأول يؤيد فكرة الديانة الغامضة على غرار "عبدة الشيطان" و أن (اول) هذا هو إله هذه الديانة الغامضة..
توقف (علي) عن الكلام كي يبحث عن وعاء ليضع فيه البقايا المحترقة للفافة التبغ, و ما أن قام بذلك أردف بقوله..
- أما الفريق الآخر لا يؤيد فكرة الديانة الجديدة لعدم وجود دلائل سابقة لظهور ديانات غامضة في اليمن من قبل كما حدث في لبنان و مصر و غيرهما إثر ظهور "عبدة الشيطان" فيها و أن القاتل كان يقصد كتابة (أول) لكنه نسى الهمزة من منطلق أن القاتل من حقه أن لا يهتم بالقواعد النحوية أثناء ارتكاب جرائمه..
- أول ماذا؟!!..
- لا أحد استطاع استنتاج بقية العبارة حتى الآن..
- و كم تبقى من الوقت للجريمة التالية, حسب نظرية القاتل المتسلسل إياها؟..
- لقد مر يومين منذ قتل (وليد), أي تبقى أربعة أيام لقتل ( دون ريكاردو)..
- من (دون ريكاردو) هذا؟..
- الاسم الوحيد الذي توصلت له و يبدأ بحرف الدال..
- ههههههههههه ليس لهذه الدرجة.. خذ عندك هذا الاسم, همممممم.........
كنت أعتقد أنني سأجد أسم بسرعة إلا أنني أخفقت فرحت أهرش شعري بعصبية بينما ذهني معصور كليمون دون فائدة.. فضحك (علي) و هو يقول:
- في البداية يعتقد الواحد أنه يعرف أسماء كثيرة تبدأ بالدال لكنه ما أن يبدأ بالتفكير حتى يكتشف مدى حماقته..
- هدوءءءءء.. دعني أفكر.. يبدو أنني وصلت لنتيجة..
هز (علي) رأسه بما معناه ( كان غيرك أشطر)..
- (دعاء), و (دنيا).. هاه ما رأيك بذكاء أخيك؟..
- يا للذكاء.. خذ عندك (دانيا), (داليا), و (دليله).. المشكلة ليست بأسماء الإناث.. المشكلة بأسماء الذكور..
- هل سفّاحك هذا متخصص بالرجال؟..
- هذا ما قاله الخبراء النفسيين عندنا.. غالباً ما يختار القتلة المتسلسلين جنساً واحد لجرائمهم, و على ما يبدو أن صاحبنا قد أختار الرجال في مهمته القذرة..
- لكن أسماء الذكور التي تبدأ بالدال نادرة..
- لهذا السبب اخترت الدون (ريكاردو)..
- ههههههه.. عندك حق هذه المرة.. و هل تعمل بهذه القضية لوحدك؟!..
- لا, لست وحدي فزميلي (عبد الرحمن) يحقق معي بهذه القضية.. و هو – بالمناسبة – في طريقه إلينا.. يجب أن تتعرف عليه.. أنه رجل عظيم..
- أخشى أنك ما زلت مصاب بعته التعرف على طبائع الرجال..
- ههههههههه.. لا.. أطمئن.. أما زلت لا تثق بحدسي بعد تلك الليلة التي واجهنا فيها المذئوبين في (رومانيا)؟.. أتذكر تلك الليلة؟..
- و من ينساها يا أخي!.. هل تصدق أن الكوابيس لم تفارقني قط لمدة شهر منذ احتكاكنا المباشر مع أولئك الوحوش..
- لكنك لا تنكر دوري في إنقاذ الموقف آنذاك..
- و أنت لا تنكر تحليلي السليم للأمور حين عرفت مفاتيح اللعبة برمتها..
- طبعاً يا عزيزي.. و إن كنت ما زلت حزين بما حل لـ (اندرو) في تلك الليلة المشئومة..
- أنا كذلك.. و الآن دعنا من هذا الموضوع المسموم, و لنعد لسفّاحنا المجنون و إن كان لا يقل سماً.. أليس من الغريب أن يقتل المرء ثم يضع علامات لتستدل بها الشرطة لجريمته اللاحقة؟.. أعتقد أن المنطق يحتم عدم وضع إشارات للاستدلال على الجريمة التالية..
- أولاً, من متى يهتم المجانين بالمنطق؟!.. على كل حال علم النفس الجنائي يفسر أن القتلة المتسلسلين يضعون علامات للدلالة عليهم على سبيل تعذيب الذات و لسبب آخر هو إحياء روح المغامرة لديهم..
- لكن عندي رأي مفاده أن القاتل المتسلسل و إن كانت لمسة الجنون تظهر في جرائمه إلا أنها لا تخلو من الترتيب و التنظيم و هذه يدل وجود عقلية كبيرة خلف هذا الجنون..
- معك حق.. يقولون أن الفرق بين الجنون و العبقرية شعرة واحدة..
- هذا الكلام ينط....
لم أستطع إكمال عبارتي إذ أن باب الغرفة أنفتح بقوة و بصوت مزعج فوثبت مترين في الهواء, و نسى قلبي أن يدق عدة ضربات, بينما توجهت نظراتي ناحية الباب متوقعاً أن أرى سفّاح أشعث الشعر طويل الأظافر يسيل الزبد من شدقيه و في يده خنجر بشع المنظر ملطخ بدم.. طبعاً كما لكم أن تتوقعوا لم يكن هناك شخص من هذا القبيل كما توقعته مخيلتي المريضة حيث لم يكن الفاعل سوى (حسام) حيث ولج و بيده حقيبة مدرسية مهترئة الأطراف و راح يخرج دفاتر منزوعة الغلاف ليريني كيف أن خطه جميل.. رغم أن الخط كان (خرابيش دجاج) إلا أنني شجعته مربتاً على كتفيه..
- ما شاء الله خطك جميل يا (حسام).. يا سلااااام.. تماماً مثل خط أبيك عندما كان بسنك..
- صحيح يا عم (اكرم).. أصلاً أنا الأسد من ذاك الشبل..
قالها و هو يشير إلى أبيه الشبل بكل فخر.. ياااه ما أروع الطفولة.. ترى كيف ينظر الأطفال للحياة.. للأسف أنا لا أذكر كيف كانت نظرتي للحياة بطفولتي لكنها – حتماً – أفضل و أبرئ من نظرتي الآن..
على ما يبدو أن تشجيعي كان له الوقع المناسب على حماسة (حسام).. فقد بدأ يعد لي من واحد إلى عشرة و يتلو عليّ سورة الفاتحة و الإخلاص بينما كنت أنا أرسم اعتي علامات الذهول و الانبهار بما أسمعه و هذا ما يحفز الطفل لقول المزيد.. هنا لم يعد (علي) قادراً على تحمل الكثير من عبقريات أبنه..
- اذهب يا (حسام) الآن لتشاهد فقرة الأطفال في التلفزيون..
- لكنها لم تبدأ بعد يا أبي..
- لقد بدأت للتو.. اذهب..
قالها و هو يدفعه دفعاً نحو الباب و أحكم إغلاق الباب... و ما أن أغلق باب الحجرة حتى سمع طرقات تدوي من جديد على الباب, ففتح الباب بعصبية و هو يهتف..
- يا أبني أذهب و ألعب بعيداً.. ألم أقل لك لا تشغلني أثناء عملي؟!..
- ماذا بك يا (علي)؟.. لمَ أنت عصبي؟!..
- هاه.. العفو يا (سعاد).. ظننتك الشقي (حسام).. ماذا تريدين؟..
- يبدو أن زميلك قد جاء, و قد أتيت إليك لأعلمك كي تفتح له الباب..
نظر (علي) إلى ساعته و أردف..
- يا عيني على هذا الرجل.. في موعده بالضبط.. أشكرك يا (سعاد), و الآن بإمكانك مواصلة عملك.. فسأذهب لفتح الباب..
كنت متشوق لرؤية الرجل الذي وصفه (علي) بالعظيم.. و بعد أقل من دقيقة كان (عبد الرحمن) أمامي.. دعوني أصفه لكم بسرعة, أنه طويل القامة, عريض المنكبين, أسمر الوجه, يجيد التظاهر بالقسوة و الخشونة رغم أنه عكس ذلك.. هنا توقفت عن فراستي التي لا تجلب لي سواء الوبال دائماً لأصافح الرجل الذي مد يديه إليّ و الذي راح (علي) يقدمه لي..
- (عبد الرحمن المسعودي).. ضابط شرطة.. صديق عزيز..
- (اكرم عبد الوهاب).. صحفي.. أبن خالي و صديق طفولتي..
- سررت للتعرف عليك أخ (اكرم)..
- أشكرك.. لقد حدثني (علي) عنك الكثير.. و لا يبدو أنه أخطأ هذه المرة..
- أتمنى أن يكون حديث جيد..
- بالطبع.. لقد أختزلها بكلمة واحدة.."عظيم"..
- اهاه.. و هل صدقته؟.. أسمعني أنا بسيط و لست عظيم كما يدعي (علي)..
- التواضع هو أولى علامات العظمة..
هنا تتدخل (علي)..
- دعونا الآن من هذا الكلام.. و لنتكلم بالأهم.. ( ثم التفت إلى عبد الرحمن قائلاً).. هل من جديد في قضية (حروف الموت)؟..
أرتبك (عبد الرحمن) قليلاً و راح يوزع النظرات بيني و (علي).. ففهم الأخير سبب الارتباك..
- لا تخش شيئاً.. فـ(اكرم) يعلم كل شيء, و بإمكانك التحدث بوجوده..
هتف (عبد الرحمن) بسخط حاول كثيراً ألاّ يظهره إلا أنه لم يستطع..
- لكن هذه القضية تندرج تحت بند "سري للغاية".. ثم.. ثم أن (اكرم) صحفي و أنت تعلم أن أحد قواعد عملنا هي ألاّ تمنح ثقتك لصحفي مهما كان.. فأنت تتعب من أجل نشر الأمن بينما هو لا يرغب إلا أن ينشر قصة جديدة..
- لكن (اكرم) ليس هنا بصفته صحفي.. أنه هنا بصفته صديق..
- و حتى إن كان صديق.. فمن متى يستمع الأصدقاء لتفاصيل عملنا؟..
- لو لم يكون (اكرم) ذو فائدة لنا لما أخبرته بالقضية من البداية.. لكنني أعتقد أنه سيكون ذو نفع لنا..
- تعتقد!.. و من متى كنا نتعامل مع الاعتقادات.. أننا نتعامل مع الحقائق فقط يا رجل.. على العموم لقد وقع الفأس بالرأس.. إلى أي مدى عرف (اكرم) عن الموضوع؟..
- 99% تقريباً..
- عظيم.. عظيم.. ما زال لدينا 1% من السرية..
- أرجوك يا (عبد الرحمن) توقف عن التهكم الآن, و لتخبرنا بالمستجدات الجديدة..
نظر (عبد الرحمن) إليّ بعدم اقتناع لوجودي بينهما.. أنا نفسي شعرت بثقل ظلي لوجودي معهما بعدما سمعت تلك المحادثة اللطيفة.. لكن الفضول يقتلني لسماع المستجدات الجديدة.. لهذا سأعمل نفسي لم أسمع شيء من ذلك الحوار..
- لقد توصلنا إلى عامل مشترك بين الضحية الأولى و الثانية و لربما ساعدنا هذا لمعرفة الضحية الثالثة..
هتف (علي) بسعادة..
- هذا خبر جيد, فمعرفة العامل المشترك سيساعدنا كثيراً لمعرفة كنه الضحية الجديدة له..
- نعم هذا صحيح.. أن العامل المشترك بين الضحيتين هو أنهما من أصحاب السوابق.. فالضحية الأولى ( فادي عبد السلام) كان متهم بقضية سرقة و قد تم الإفراج عنه قبل شهرين.. أما الضحية الثانية فهو (وليد مرزوق) كان متهم بقضية قتل خطأ و قد تم تسريحة من السجن الشهر الماضي بعد أن قضى فترة العقوبة..
- هل تريد القول أن السفّاح يختار أصحاب السوابق الذين خرجوا من السجن مؤخراً ليقتلهم..
- نعم..
و هنا تدخلت أنا بعبقريتي الخارقة..
- أعتقد أن السفّاح قد أجاد اختيار ضحاياه.. فما الخسارة التي سيخسرها المجتمع من قتل مجرمين سابقين لربما لم يردعهم السجن من ارتكاب الجرائم..
نظر إليّ (عبد الرحمن) باشمئزاز و هو يقول:
- لو تمنيت حرق جميع السيئين في العالم لتحولت الأرض إلى موقد كبير.. أن سفّاحنا هذا مجنون لا محالة.. و الاستنتاج الأولي الذي وصلت له هو أن يكون هذا السفّاح ضابط شرطة أو له من يعاونه في قسم الشرطة..
تساءل (علي) و هو يشعل لفافة تبغ جديدة..
- و كيف وصلت لهذا الاستنتاج؟
- من خلال نوع ضحاياه الذي يجعلنا شبه متأكدين أنه يرغب بمحاربة الجريمة لكن بأسلوبه الخاص.. و السبب الآخر لاستنتاجي هو معرفته بأسماء و عناوين المجرمين الذين خرجوا من السجن مؤخراً و هذه المعلومات موجودة في سجلات خاصة لا يصل إليها إلى ضابط شرطة..
- لكن من الصعب أن نتهم أحد الضباط بدون دليل قوي.. فأنت تعرف أن مثل هذه الأمور فيها محاكمة عسكرية..
- يبقى لدينا احتمال أن لا يكون السفّاح أحد الضباط, لكنه يملك من يزوده بالمعلومات في القسم..
- هذا الاحتمال قريب نوعاً ما..
هنا أدليت برأيي بعد أن راجعته بعقلي عشر مرات خوفاً من يتهمني هذين الشخصين الذين يتظاهرا بالخطورة بخرف سابق لأوانه..
- لو سمحتا لي.. لقد كونت رأي لا بأس به.. هلا تسمعاني..
ألتفت الاثنين إليّ, فأردفت..
- كما علمت حتى الآن أن الضحيتين كانتا من أصحاب السوابق و يتوقع أن يكون الضحايا القادمين من أصحاب السوابق كذلك.. لماذا لا يكون القاتل رئيس عصابة منظمة لتصفية أفراد من عصابته الذين خرجوا من السجن لدفن سراً ما معهم.. هذا التفسير يضمن لنا على الأقل كيف توصل السفاح لمكان إقامة ضحاياه.. و دافع الجريمة..
أسعدني لمحات الإعجاب التي ارتسمت على تقاسيم وجهيهما, فهتف (عبد الرحمن) بسعادة حاول إخفائها بفشل..
- تحليل منطقي بالفعل.. ربما هو التحليل الأفضل حتى الآن.. يبدو أنني سأسعد كثيراً بالعمل معك يا (اكرم)..
- أشكرك يا (عبد الرحمن), لقد سررت كثيراً لسماع وجهة نظرك فيّ..
- لا يوجد مجال للمجاملة في عملي يا (اكرم), ففي البداية سمعت رأيي المعارض لوجودك, و بعد ما سمعت أفكارك أعربت - و بصراحة - عن إعجابي لك لمجرد أنك تستحق الإعجاب..
- هذا هو الشيء الذي أعجبني فيك يا (عبد الرحمن).. و صدقني أنا صريح كذلك و أحب الصراحة, لذلك أعتقد أن سنتفاهم بشكل جيد لاحقاً..
- أتعشم ذلك بالفعل..
شفط (علي) آخر (نفس) من لفافة التبغ و رمى البقايا في الوعاء الخاص بذلك و هو يتساءل..
- و الآن.. ماذا ستكون خطوتنا التالية؟..
- سنبحث في سجلات السجن عن مجرم قضى فترة عقابه في السجن و خرج منه مؤخراً و يبدأ أسمه بحرف الدال..
فردت ساقيّ اللتين تخشبتا من جلسة القرفصاء هذه و تساءلت..
- و هل سنجد مثل هذا الاسم؟!..
- و ماذا سنخسر لو بحثنا.. لربما وجدنا ضآلتنا هناك..
- عندك حق.. و الآن اسمحا لي بالمغادرة.. أخشى ينسدل الليل و أنا هنا.. ستكون تجربة غير محببة للنفس أن أتعدي من كل الحفر في الظلام..
أبتسم (عبد الرحمن) و هو يقول:
- هل تخشى الظلام يا (اكرم)؟..
- لا, بل أخشى المجهول.. و المجهول هو الابن الشرعي للظلام..
هنا قهقه (علي) و ضرب على صدري ضربة – على سبيل الدعابة – كادت أن تنتزع أحد أضلاعي..
- و الله عشنا و شفنا (اكرم) يتفلسف..
- آه.. لو كنت تسمي ما قلته فلسفة, فأنا لا أنكر ذلك.. و الآن أرجو منك إحضار ملابسي التي أتعشم أن تكون قد جفت الآن..
- صحيح.. لقد نسيت أمرها.. دقيقة و تكون عندك..
و بالفعل لم تكن إلا دقيقة و بذلتي البيضاء - التي تجعلني كنجم سينمائي- بيدي.. ارتديتها و ودعتهما على أمل اللقاء بأقرب وقت.. و عند الباب همس (علي) لأذني..
- عدني أن تحتفظ بنفسك حياً حتى الغد..
- صدقني, سأحاول لكنني – كالعادة – لا أعدك..
*** *** ***
في الشارع كنت أكثر حذراً و امتنعت عن التظاهر بالرشاقة كي لا أقع مرة أخرى في أي حفرة, إلا أن ثمة شعور غريب يراودني بأنني مراقب.. ألتفت للوراء بسرعة للوراء لكنني لم أجد أحد سوى بعض الصبية يلعبون كرة القدم.. واصلت طريقي و القلق ينهش قلبي.. غريب هذا الشعور حقاً.. نادراً ما تخذلني حاستي السادسة, لكن ما معنى كل هذا؟!.. و بينما كنت غارق بهواجسي السوداء شعرت بضربة عنيفة على مؤخرة رأسي, فألتفت للوراء لأعرف من الفاعل إلا أن الغيبوبة كانت أسرع مني و لم أعد أرى سوى السواد..
سواد لا نهاية له..
و بدون أدنى أمل..
*** *** ***
يـــتبع
Bookmarks