السلطان زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود والقطب الذي عليه مدار الدنيا وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده به يمتنع حريمهم وينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائفهم.
قالت الحكماء: إمام عادل خير من مطر وابل وإمام غشوم خير من فتنة تدوم ولما يزع الله بالسلطان أكثر ما يزع بالقرآن.
وقال وهب بن منبه: فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السلام: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.
فحق على من قلده الله أزمة حكمه وملكه أمور خلقه واختصه بإحسانه ومكن له في سلطانه أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيته والاعتناء بمرافق أهل طاعته بحيث وضعه الله عز وجل من الكرامة وأجرى له من أسباب السعادة.
ومن شأن الرعية قلة الرضا عن الأئمة وتحجر العذر عليهم وإلزام اللائمة لهم ورب ملوم لا ذنب له. ولا سبيل الى السلامة من ألسنة العامة اذ كان رضا جملتها وموافقة جماعتها من المعجز الذي لا يدرك والممتنع الذي لا يملك ولكل حصته من العدل ومنزلته من الحكم.
فمن حق الامام على رعيته ان تقضي عليه بالاغلب من فعله والأعم من حكمه. ومن حق الرعية على إمامها حسن القبول لظاهر طاعتها واضرابه صفحاً عن مكاشفتها كما قال زياد لما قدم العراق والياً عليها: أيها الناس قد كانت بيني وبينكم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان محسناً فليزد في إحسانه ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني والله لو علمت ان احدكم قد قتله السل من بغضي لم اكشف له قناعاً ولم أهتك له ستراً، وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر.
نصيحة السلطان ولزوم طاعته قال الله تبارك وتعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم». وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة.
وطاعتهم من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من فارق الجماعة أو خلع يداً من طاعة مات ميتة وقال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة.
قالوا لمن يا رسول الله قال: لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم.
فنصح الإمام ولزوم طاعته وإتباع أمره ونهيه في السر والجهر فرض واجب وأمر لازم ولا يتم إيمان إلا به ولا يثبت إسلام إلا عليه.
وقال الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لي أبي: أرى هذا الرجل ـ يعني عمر بن الخطاب يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً ولا يجربن عليك كذباً ولا تطو عنه نصيحة ولا تغتابن عنده أحداً.
قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحد خير من ألف.
قال: إي والله ومن عشرة آلاف.
وفي كتاب للهند: أن رجلاً دخل على بعض ملوكهم فقال أيها الملك إن نصيحتك واجبة في الصغير الحقير والكبير الخطير.
ولولا الثقة بفضيلة رأيك واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع والقلوب في جنب صلاح العامة وتألف الخاصة لكان خرقاً مني أن أقول.
ولكنا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك وأنفسنا متعلقة بنفسك لم نجد بداً من أداء الحق إليك وإن أنت لم تسلني ذلك فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والأطباء مرضه والإخوان بثه فقد أخل بنفسه.
وأنا أعلم أن كل ما كان من كلام يكرهه سامعه لا يتشجع عليه قائله إلا أن يثق بعقل المقول له ذلك.
فإنه إذا كان عاقلاً احتمل ذلك لأن ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل.
وإنك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي وتصرف في العلم ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره واثقاً بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إياك على نفسي.
وقال عمرو بن عتبة للوليد حين تغير الناس عليه: يا أمير المؤمنين إنه ينطقني الأنس بك وتسكتني الهيبة لك وأراك تأمن أشياء أخافها عليك أفأسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً قال: كل مقبول منك والله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.
وقال خالد بن صفوان: من صحب السلطان بالصحة والنصيحة كان أكثر عدواً ممن صحبه بالغش والخيانة لأنه يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد فصديق السلطان ينافسه في مرتبته وعدوه يبغضه لنصيحته.
ما يصحب به السلطان قال ابن المقفع: ينبغي لمن خدم السلطان أن لا يغتر به إذا رضي ولا يتغير له إذا سخط ولا يستقل ما حمله ولا يلح في مسألته.
وقال أيضاً: لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم فإن كنت حافظاً إذا أولوك حذراً إذا قربوك أميناً إذا ائتمنوك ذليلاً إذا صرموك راضياً إذا أسخطوك تعلمهم وكأنك تتعلم منهم وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر منهم كل الحذر.
وقال المأمون: الملوك تتحمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك وإفشاء السر والتعرض للحرم.
وقال ابن المقفع: إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة فإن ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض.
وقال أبرويز لصاحب بيت المال: إني لا أعذرك في خيانة درهم ولا أحمدك على صيانة ألف ألف: لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك فإن خنت قليلاً خنت كثيراً.
واحترس من خصلتين: النقصان فيما تأخذ والزيادة فيما تعطى.
واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والقوة على العدو إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه وخواتمه التي هي عليه فحقق ظني باختياري إياك أحقق ظنك في رجائك إياي: ولا تتعوض بخير شراً ولا برفعة ضعة ولا بسلامة ندامة ولا بأمانة خيانة.
ولما ولي يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له: إن أباك كفى أخاه عظيماً وقد استكفيتك صغيراً فلا تتكلن على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك.
وإياك مني قبل أن أقول إياي منك فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في.
وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.
وقال يزيد: حدثني أبي: أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل فجاوز عمر معاوية حتى اخبر به فرجع إليه.
فلما قرب منه نزل إليه فأعرض عنه فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل.
فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية أنت صاحب الموكل آنفاً مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: ولم ذاك قال: لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو ولا بد لهم مما يرهنهم من هيبة السلطان فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت.
فقال لئن كان الذي تقول حقاً فإنه رأي أريب وإن كان باطلاً إنها خدعة أديب وما آمرك به ولا أنهاك عنه.
فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه فقال: لحسن مصادره و موارده جشمناه ما جشمناه.
من كتاب العقد الفريد لـ ..ابن عبدربه
Bookmarks