بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: لقد من الله تعالى علينا بهذا الدين العظيم، وجعلنا من أهله، فله الحمد على هذه النعمة العظيمة {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [(17) سورة الحجرات]. وقد رضي الله لنا الإسلام ديناً، وكتب له البقاء في هذه الأرض، ووعد أتباعه بالتمكين والاستخلاف إن هم استقاموا على الطريق وحققوا أسباب النصر والتمكين فإن لم يفعلوا فلا يعني زوال هذا الدين بل يستبدل الله غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم، يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، يدفع الله بهم الفساد وينـزل عليهم نصره المبين، ويعذب بهم الكافرين {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [(11) سورة الرعد]. إنه ليتملكنا العجب من بقاء هذا الدين منذ ظهوره وإلى يومنا، بل وإلى الغد وبعد غد حتى يأتي أمر الله، على الرغم من فترات الضعف التي يمر به وبأتباعه فما الذي يبقيه رغم زوال المقومات المادية؟ وما الذي يبقيه وهو محارب في كل مكان؟ مضيق عليه في أماكن وجوده؟ ما الذي يبقيه وليس لديه قوة بشرية تحميه، ولا وسائل إعلام تحمل مبادئه وتغرس مفاهيمه في عقول الناس، بل أصبحت الغربة من نصيب أتباعه؟!!. إن الذي يبقيه والحالة هذه أنه من عند الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فها نحن نرى ونسمع مع شدة الوطأة عليه، ودعاوى الإرهاب التي تلصق بأتباعه، ومع انتشار موجات التغريب والفساد في ديار الإسلام، ورغم جهود التنصير التي نصبت خيامها في أراضي الإسلام والتي هي في ازدياد تعمل جاهدة للحد من انتشار الإسلام ورغم محاربة الجمعيات الخيرية وسياسة تجفيف المنابع التي تغذيه.. بل لا يفتأ العدو يشن عليه حملات القمع والإبادة والتشويه والخداع والتضليل. بل مع تميز العدو في العدة والعتاد وتسلطه على ديار الإسلام إلا أنه مع هذا كله لا يزال يمتلئ خوفاً ورعباً من الإسلام، لا يزال موقناً بأن القوة التي تهدده هو الإسلام، فنسبة المسلمين في العالم لا يستهان بها، ففي أوروبا يوجد خمسون مليون مسلم 20% منهم دخلوا حديثاً، وفي أسبانيا أصبح المسلمون اليوم أكبر الأقليات، والإسلام ثاني أديان البلد حيث يعيش فيه الآن ما يقارب ستمائة ألف مسلم. كما يوجد في إسبانيا نحو ثلاثمائة مسجد وفي أمريكا يقدر عدد المسلمين 6-7 ملايين نسمة تقريباً مليون منهم يرتاد المساجد، ويقدر عدد المساجد هناك 1500-2000 مسجد. وفي فرنسا يبلغ عدد المسلمين ستة ملايين نسمة لديهم 3500 مسجد، وفي إيطاليا 300 ألف مسلم وفيها أربعمائة مسجد، وفي تايوان أكثر من ستين ألف مسلم، وفي الصين خمسة وثلاثون ألف مسلم، وتشير الإحصائيات إلى وجود ثلاث وعشرون ألف مسجد في الصين، منها 55 مسجد في العاصمة. والمسلمون في هذا العالم يمثلون رقماً صعباً لا يمكن تهميشه والتغافل عنه، بل وأعظم من ذلك مما يغيظ الأعداء ما نسمعه من إقبال على الدخول في هذا الدين الحنيف من مختلف البيئات الأوربية وغيرها، وما نراه من مقاومة ضد المحتل في الأرض التي يجثم الاحتلال بثقله عليها واستمرار هذه المقاومة لأنها ترفع شعار الجهاد والدفاع عن الدين. كل ذلك وغيره يدفعنا إلى التفاؤل وعدم الإصابة بالعجز واليأس وضيق الصدر؛ لأجل ما حل بأمتنا الإسلامية من المصائب من سلب لثرواتها، وإهانة لمقدساتها، ومسخ لأخلاقها، وتفرق فيما بينها، وفشو الفقر والجهل في أوساط شعوبها؛ وضعف زعاماتها، والخنوع والخضوع لإرادة الغرب ومطالبه. إنه مهما يكن من ذلك فلا بد من التفاؤل والأمل بل واليقين الجازم الذي لا يداخله شك ولا ارتياب بوعد الله تعالى ونصره وتمكينه أن المستقبل للإسلام لا بد وأن ترتفع المعنويات لدى أهل الإسلام؛ لأن لديهم نصوصاً هي جزء من عقيدتهم تبشر بأن المستقبل لهذا الدين، ولأنه سيبلغ كل مكان بلغه الليل والنهار كما في حديث تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا حجر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر" [رواه أحمد في مسنده]. هذه هي العاقبة المحتومة التي لا ينبغي أن ينقصنا اليقين بها، ولا أن يساورنا أدنى شك في تحققها. ويأتي هذا الكلام لأنه ربما تسلل إلى نفوس بعض المسلمين الانهزام واليأس، وضعف المعنويات تجاه ما يرون من تسلط الكفر وأهله على بلاد الإسلام. مع أن الواجب ألا تزيدنا هذه الخطوب والشدائد إلا إيماناً وتسليماً وصدقاً ويقيناً فإنها حال أهل الإيمان التي أخبر الله عنهم مثنياً عليهم بها فقال: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [(22) سورة الأحزاب]. وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (173) [سورة آل عمران]. إن ما يحيط بالأمة الإسلامية من شدائد وكروب ومضايق وخطوب لا ينبغي أن يقابل بالاستكانة والعجز والاستسلام بل لا بد من رفع هذا الذل والصغار بالإقبال على الله تعالى وتحقيق التقوى وهجر المعاصي، ودعاء الله تعالى لكشف الكرب، ومحاربة الظلم والغش والفساد والأخذ بالأسباب المعنوية والمادية مع التحلي بالصبر والمصابرة والثبات والدعوة إلى اجتماع الكلمة، وعدم الركون إلى الكفار بحال، وإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى، فالله الله في العودة الصادقة إلى هذا الدين أفراداً وجماعات شعوباً وحكومات، فوالله ما تخلى الله عنا إلا أننا ابتعدنا عن ديننا وتخلينا عنه، ولم نعد نحكِّمه في أنفسا وأهلينا وذوينا بل هجرنا كتاب ربنا، وحكَّمنا أعرافنا وتقاليدنا واستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وغلَّبنا شهواتنا على عقولنا واستهوتنا الشبهات وغمرتنا الملذات، ولم نشكر نعمة الله التي أنعم بها علينا، فسلط علينا العدو وأذاقنا منه الاستخفاف والذلة والصغار لكي يستخرج منا عبودية التوبة والإنابة إليه والتضرع له كما قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [(43) سورة الأنعام]. فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة وإن لم نفعل ذلك جاء الله بقوم يحملون هذا الدين، يبلغونه للناس ويصبرون عليه حتى يأتي نصر الله ألا إن نصر الله قريب. إن من طبيعة هذا الدين أنه عندما ما يصل في بعض الأحيان إلى أقصى حالات الضعف لكنه في هذه الحالة، وفي أحرج لحظات الخوف، وفي مقام يكون فيه أقرب إلى الاستئصال منه إلى البقاء يكون ذلك كله علامة على اقتراب النصر والتمكين. وهذه حقيقة أثبتها القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [(214) سورة البقرة]. {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [(110) سورة يوسف]. نعم: إن هذه الحقيقة كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر بها في أوقات المحن والشدائد، ففي حال هجرته التي كان مطارداً فيها مطلوباً من رصد قريش يقول لسراقة: كيف بك وسواري كسرى؟ ويعده بسواري كسرى شاهٍ شاه الفرس. والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة حول هذا العرض العجيب من رجل في مثل هذه الحال. وفي موقف آخر يُذَكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الحقيقة في غزرة الخندق التي صورها القرآن بقوله: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [(10) سورة الأحزاب] في مثل هذا الموقف العصيب يبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتح فارس والروم. وفي عهد الصديق لما ارتد العرب قاطبة إلا مواطن من جزيرة العرب، كان الظاهر للعيان أن الإسلام لن تقوم له قائمة بعد ذلك الحين ثم جاء نصر الله على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وفي وقت الهجمة الشرسة من التتار على بلاد الإسلام قيض الله تعالى من أمراء الإسلام وعلمائه من يحمي العرين ويعيد الأمور إلى نصابها. وهؤلاء الصليبون الذين استمر احتلالهم لبيت المقدس نحو قرن من الزمان، طهره الله تعالى منهم على يد البطل صلاح الدين الأيوبي ومن معه من الفئة المؤمنة. كل هذه الدلائل وغيرها من المبشرات في زمن الاستضعاف وزمن الهوان لكن لن ينال نصر الله إلا من أدى ثمنه وحمل أعباءه لن تنال النصر حتى نرتفع إلى مستوى هذا الدين في حقيقة إيماننا بالله. وحتى نرتفع إلى مستو عال في عبادتنا له تعالى حتى نرتفع إلى مستو عال في الولاء لأوليائه والعداء لأعدائه. {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [(11) سورة الرعد] وحين يريد ربنا أمراً فإنه يأتي إليه كما يشاء فهو تعالى العليم القدير، لا يمتنع عليه سبب، ولن تعجزه غاية، وقديماً أخرج الله تعالى اليهود من حصونهم بعد أن ركنوا إليها وظنوا أنها مانعتهم، بل قد ظن المؤمنون أنفسهم بذلك {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [(2) سورة الحشر] . نسوا قوة الله التي لا تردها حصون {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}. أتاهم من داخل نفوسهم لا من داخل حصونهم وقذف في قلوبهم الرعب. تلك سنة الله تعالى في الدنيا وأهلها، في أهل الكفر والإيمان في الدعوات وأصحابها. شدائد وكروب، ومضايق وخطوب ثم يجيء النصر والفرج، كل ذلك حتى لا يكون النصر رخيصاً، وحتى لا تصبح دعوة الحق هزلاً ولقباً، لكنها تسير على قواعد ومناهج وسنن يتخذ فيها الشهداء ويمحص فيها المخلصون من الأدعياء. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(3) سورة المائدة]. اللهم اكتب لأهل هذا الدين عزاً ونصراً، وعلى من مكر بهم ذلاً وقهراً. اللهم عليك بأعداء الدين من الصليبين الحاقدين، واليهود الغاصبين اللهم فل جيوشهم ودك عروشهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
د . انور ابو زيد وفقه الله
Bookmarks