ما جاء في الرياء من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة وأقوال العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده * والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه * أما بعد :
باب ما جاء في الرياء
قوله : ( باب : ما جاء في الرياء )
أي : من النهي والتحذير . قال الحافظ : هو مشتق من الرؤية . والمراد به : إظهار العبادة لقصد رؤية
الناس لها فيحمدون صاحبها . والفرق بينه وبين السمعة : أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة .
والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر ، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله .
وقول الله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴿110﴾ ) [ الكهف ] .
قوله : " وقول الله تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد )
أي : ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شئ ، بل ذلك كله لله وحده لا شريك له * أوحاه إلي (
فمن كان يرجوا لقاء ربه ) أي : يخافه : ( فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ).
قوله : (( أحداً )) نكرة في سياق النهي تعم ، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين
والأولياء وغيرهم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما اللقاء : فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة
، وقالوا : لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وذكر الأدلة على ذلك .
قال ابن القيم رحمه الله في الآية : أي كما أن الله واحد لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة
له وحده لا شريك له ، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح : هو الخالص من
الرياء المقيد بالسنة .
وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرسلين
قبله ، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي
إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] .
والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام : إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته ، ويدعو
الناس إلى عبادته ، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان ، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه
بأنواع العبادة أو بعضها ، أو شاك في التوحيد : أهو حق * أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته ؟
أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله ، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجهلهم وتقليدهم
من قبلهم ، لما أشتدت غربة الدين ونسى العلم بدين المرسلين .
وعن أبي هريرة مرفوعاً : ( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك * من عمل عملاً أشرك
معي فيه غيري تركته وشركه ) رواه مسلم .
قوله : " وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك .
من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم .
قوله : [ من عمل عملاً أشرك فيه غيري ] أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين (( تركته
وشركه )) .
ولابن ماجه [ فأنا منه بريء وهو للذي أشرك ] قال الطيبي : الضمير المنصوب في قوله : (( تركته ))
يجوز أن يرجع إلى العمل .
قال ابن رجب رحمه الله : واعلم أن العمل لغير الله أقسام : فتارة يكون رياء محضاً كحال المنافقين .
كما قال تعالى (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿142﴾ ) [
النساء ] وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام . وقد يصدر في
الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة * أو التي يتعدى نفعها ، فإن الإخلاص فيها
عزيز ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط ، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة .
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء ، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه .
وذكر أحاديث تدل على ذلك منها : هذا الحديث * وحديث شداد بن أوس مرفوعاً ( من صلى يرائي
فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ، وإن الله عز وجل يقول : أنا
خير قسيم لمن أشرك بي ، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك
به . أنا عنه غني ) رواه أحمد .
وذكر أحاديث في المعنى * ثم قال : فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء ، مثل أخذ أجرة للخدمة
أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة * نقص بذلك أجر جهاده * ولم يبطل بالكلية .
قال ابن رجب : وقال الإمام أحمد رحمه الله : التاجر والمستأجر والمكري أجرهم على قدر ما يخلص
من نياتهم في غزواتهم ، ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره .
وقال أيضاً فيمن يأخذ جعل الجهاد : إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه إن أعطي
شيئاً أخذه .
وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : ( إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً فلا
بأس بذلك ، وأما إن كان أحدكم أعطي دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز * فلا خير في ذلك ) .
وروي عن مجاهد رحمه الله : أنه قال في حج الجمال وحج الأجير ، وحج التاجر ( هو تام لا ينقص
من أجرهم شيء ) أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب .
قال : وأما إن كان أصل العمل لله * ثم طرأ عليه نية الرياء : فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير
خلاف ، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا * فيجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين
العلماء من السلف * قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير ، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك ، وأنه يجازي
بنيته الأولى ، وهو مروي عن الحسن وغيره .
وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه سئل عن الرجل يعمل
العمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال : تلك عاجل بشرى المؤمن " رواه مسلم . إنتهى
ملخصاً .
قلت : وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى .
وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح
الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى
من نظر رجل " رواه أحمد .
قوله : " وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من
المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته
لما يرى من نظر رجل " رواه أحمد " .
وروى ابن خزيمة في " صحيحه " عن محمود بن لبيد قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر ، قالوا : يا رسول الله وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم
الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه . فذلك شرك السرائر ) .
قوله : " عن أبي سعيد " الخدري وتقدم .
قوله : (( الشرك الخفي )) سماه خفياً لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره ، أو شركه
فيه بتزيين صلاته لأجله . وعن شداد بن أوس قال : ( كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم الشرك الأصغر ) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ، وابن جرير في التهذيب ،
والطبراني والحاكم وصححه .
قال ابن القيم : وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ، وقول الرجل
للرجل * ماشاء الله وشئت ، وهذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل
على الله وعليك ، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله
ومقصده ، إنتهى .
ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله ، وكذلك المتابعة ، كما قال الفضيل بن عياض رحمه
الله في قوله تعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) [ الملك : 2 ] قال : (( أخلصه وأصوبه )) .
قيل : ياأبا علي * ما أخلصه وأصوبه * قال : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل * وإذا
كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً * فالخالص ما كان لله * والصواب ما كان
على السنة .
وفي الحديث من الفوائد : شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم ، وأن الرياء
أخوف على الصالحين من فتنة الدجال . فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات
الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره
وأكبره .
" فتح المجيد شرح كتاب التوحيد "
تأليف : المجدد الثاني الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب .
.
Bookmarks