الفـصـاحـــة
الفصاحة في أصل الوضع اللغوي: الظهور و البيان، فهي من قولهم: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره، و الدليل على ذلك قول العرب: أفصح الصبح إذا ظهر و أضاء، و أفصح اللبن إذا انجلت عنه رغوته فظهر، و أفصح الأعجمي إذا أبان بعد أن لم يكن يُفصح و يُبين، و فصُح اللّحّان، أي كثير اللحن و الخطأ، إذا عبر عما في نفسه و أظهره على جهة الصواب دون الخطأ.
و إذا كان الأمر كذلك فالفصاحة و البلاغة ترجعان إذن إلى معنى واحد و إن اختلف أصلاهما، لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى و إظهاره.
ويذكر أبو هلال العسكري نقلا عن بعض علماء العربية، أن الفصاحة تمام آلة البيان، فلهذا لا يجوز أن نسمي الله تعالى فصيحا، إذ كانت الفصاحة تتضمن معنى الآلة، و لا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة، و إنما يوصف كلامه بالفصاحة، لما يتضمن من تمام البيان.
و الدليل على ذلك عنده أن الألثغ و التمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف. و سمي الشاعر الأموي زياد بن سليمان: زيادا الأعجم، لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف( كتاب الصناعتين ص 7ـ8).
فقد كان كسائر الأعاجم لا يستطيع لفظ العين و الحاء و الصاد، فكان ينطق كلمات مثل( الحمار)(الهمار) و (دعوتك)(دأوتك) و (تصنع)(تسنأ). و مع ما في هذه الألفاظ من القبح و اللكنة فهو أعجم و شعره فصيح لتمام بيانه، كقوله في رثاء المهلب بن المغيرة:
قل للقوافل و القرىّ إذا قروا
و الباكرين و للمجدّ الرائح
إن المروءة و السماحة ضمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به
كوم الهجان و كل طرفٍ سابح
فعلى هذا ـ كما يقول أبو هلال العسكري ـ تكون الفصاحة و البلاغة مختلفتين، و ذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ، لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، و البلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فكأنها مقصورة على المعنى.
و استدل أبو هلال على أن الفصاحة تتضمن اللفظ و البلاغة تتناول المعنى بالببغاء، فالببغاء يسمى فصيحا و لا يسمى بليغا، إذ هو مقيم الحروف، و ليس له قصد إلى المعنى الذي يريده.
و يرى أيضا أنه يجوز أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره، فِجّ و لا متكلف وَخِم، و لا يمنعه من أحد الاسمين شيء، لما فيه من إيضاح المعنى و تقويم الحروف.
و يذهب قوم إلى أن الكلام لا يسمى فصيحا حتى يجمع مع نعوت الجودة و لم يكن فيه فخامة و شدة جزالة. يقول ابن العباس الصولي:
تمر الصبا صفحا بساكنة الغضى
و يصدع قلبي أن يهب هُبُوبُها
قريبة عهد بالحبيب و إنما
هوى كل نفس حيث حل حبيبها
فالبيت الأول عندهم فصيح و بليغ لاشتماله على نعوت الجودة مع الفخامة و الجزالة، و البيت الثاني بليغ و ليس بفصيح، لتضمنه نعوت الجودة دون الفخامة و الجزالة.
و هناك ألفاظ مثل ( المزنة) و ( الديمة) كلمات حسنة يستلذها السمع، أما كلمة ( البعاق) فهي كلمة قبيحة يكرهها السمع. و هذه الصفات الثلاثة من صفة المطر، و هي تدل على معنى واحد، و مع ذلك فإن لفظتي الديمة و المزنة و ما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال و لفظ البعاق و ما جرى مجراه متروكا لا يستعمل، و إن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم.....
Bookmarks