عبد الباري عطوان
يعتبر الحديث عن الرئيس حسني مبارك وصحته وخلافته من المواضيع المحرمة في الصحافة العربية، لان القاعدة المتبعة تقول ان الزعماء العرب فوق النقد، لانهم معصومون ، مثل الانبياء تماما، وربما الزعيم الوحيد الذي يشذ عن هذه القاعدة هو الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
فالزعماء العرب لا يمرضون، ولا يخطئون، وهم في الغالب ديمقراطيون منتخبون بنسبة اصوات عالية جدا، ولذلك مطلوب من الشعب الطاعة المطلقة، والولاء الكامل، والا فتهمة الارهاب جاهزة، والمقاصل منصوبة، والسجون مفتوحة.
في الاسبوع الماضي انهار الرئيس مبارك، وهو يلقي خطابه امام مجلس الشعب المصري، وسقط مغشيا عليه، فحصلت حالة من الارتباك غير مسبوقة، ولجأ شيخ الازهر الى الدعاء والابتهال الى الخالق بصوت مسموع، وكأنه في مأتم، بينما اجهش وزير الاسكان في البكاء، وطالب احد النواب من الحزب الحاكم تلاوة القرآن الكريم.
الارتباك امتد الى المسؤولين في الدولة والاعلام الرسمي، فقد اصروا على ان الرئيس سليم معافى، وان الامر لا يزيد عن زكام بسيط ، وبرروا سبب الاغماءة بأخذ الرئيس جرعات قوية من المضادات الحيوية. وهذه هي المرة الاولى التي نسمع فيها ان الزكام البسيط يحتاج الى مضادات حيوية قوية. ويبدو ان زكام الزعماء غير زكام المواطنين.
مصر مريضة سياسيا، هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها. وهذا المرض السياسي انعكس على كل اوجه الحياة فيها، وجعلها تمر في حال من الركود على درجة خطيرة وغير مسبوقة، وجاءت الوعكة الصحية للرئيس لتسلط الاضواء على فراغ سياسي يمــكن ان يــؤدي الى ازمــات متعــددة، وفوضى امنية واقتصادية لا يتمناها اي محب لمصر ولشعبها الطيب المعطاء.
مجلة النيوزويك التي تدخل مصر بحرية تامة، قالت في عددها الاخير ان الرئيس مبارك لم يعد يقوى على التركيز في لقاءاته مع المسؤولين العرب والاجانب، ويسرح طوال الوقت، ومصر في ظل الظروف الحالية الحرجة التي تمر بها، والمنطقة بأسرها، بحاجة الى رئيس قوي يملك رؤية سياسية واقتصادية واضحة، وقادر على استعادة دور بلاده، كقوة قائدة ورائدة في العلاقات الدولية.
مصير الرئاسة، ومعه مصير البلاد، لا يجب ان يترك لنزلات البرد وارتفاع الحرارة، والمضادات الحيوية، ولا بد من اغلاق باب التكهنات حول منصب نائب الرئيس باحكام شديد، ووضع حد لبورصة التكهنات حول المرشحين المحتملين، حفاظا على امن البلاد واستقرارها.
لا بد من التخلي عن كل عمليات التزوير السياسي السابقة، فقد باتت مكشوفة ومفضوحة، ولا تقنع احدا. ولا بد ان يعطي الشعب المصري العريق الفرصة الكاملة، ليس فقط لاختيار الرئيس، وانما ايضا نائب الرئيس، في انتخابات حرة نزيهة، يتنافس فيها اكثر من مرشح، ووفق اطار دستوري واضح ومحترم من الجميع، ومسنود بقضاء مستقل.
الاسلوب القديم المتبع، اي ان يؤيد الشعب المرشح الذي يختاره الحزب الحاكم، ويبصم البرلمان، المشكوك في شرعيته، على اختياره، هذا الاسلوب لم يعد مجديا، وعفا عليه الزمن.
لا احد يعترض ان يكون جمال مبارك هو خليفة والده، والرئيس المقبل لمصر، لكن شريطة ان يفوز بهذا المنصب في انتخابات حرة مباشرة، في ظل منافسة نزيهة مع مرشحين آخرين. وليس بناء على استفتاء من طراز الخمس تسعات اياه .
فالشعب المصري الذي يملك سبعة آلاف عام من التراث الحضاري، وسبق بريطانيا في اعطاء المرأة حق الترشيح في الانتخابات يستحق رئيسا منتخبا بطريقة ديمقراطية عصرية، لا رئيسا مفروضا عليه من فوق، وكأنه شعب قاصر.
ان مصر تعيش حاليا أجواء نهاية عهد ، والعهود في نهاياتها تكون دائما مفتوحة على كل الاحتمالات، وخاصة احتمالات الفوضى والاضطراب. ولهذا لا بد من اخراج مصر من هذا النفق باقل قدر ممكن من الخسائر، واكبر قدر ممكن من المكاسب للشعب المصري وللأمة العربية بأسرها. فمرض مصر هو مرض للعرب جميعا، وتعافيها هو تعاف للعرب جميعا، هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها او نكرانها.
الأمة العربية تعيش حال الانهيار الحالي بسبب مرض مصر السياسي وتخليها عن الزعامة، فالعراق محتل، وشارون يعربد في الارض المحتلة، والثروات العربية منهوبة، والانظمة غارقة في الديكتاتورية والفساد.
مصر قادت ثورات الأمة جميعا، وساهمت في تحرير معظم الدول العربية، بل ومعظم دول العالم الثالث. وعندما انكفأت على نفسها، واختارت قيادتها العزلة عن محيطها، او القيام بادوار شكلية تجميلية، تفاقمت ازمات مصر، وتطاول بغاث البشر عليها، ووصل الامر بشارون الى درجة توجيه الاهانات اليها، والى زعمائها في وضح النهار.
فمثلما تصدت مصر للمغول والتتار والفرنسيين والانكليز في الماضي تستطيع ان تتصدى لهذه الهجمة الامريكية ـ الاسرائيلية ببسالة، فشعبها الابي لن يموت جوعا، ويستطيع الاستغناء عن دولارات المهانة والذل الامريكية.
الشعب المصري كان دائما في خندق قضايا الحق، ولا يزال، وقدم آلاف الشهداء نصرة للقضايا العربية، ووصلت بعثاته التعليمية الى ادغال افريقيا وصحارى آسيا. وهذا الشعب يستحق الديمقراطية والرخاء والاستقرار، مثلما يستحق قيادة تستعيد مكانة بلاده كرائدة على الخريطة السياسية العربية والعالمية.
Bookmarks