حين تأخذني الذاكرة الى نفحات الأصالة التي تسكن الأيام الخوالي ..تلك الأيام التى عشتها ولم تكن بالبعيدة حسابيا عن حاضري المرير ..اجدني اجتاح أكوام الرماد لأستمتع برائحة الجنان الملونة بزهاء الماضي .. الماضي الذي بات بعيدا وسحيقا كأني لم أعشه أبدا ..كأنه حلم من صنع خيالي وأوهامي ..في ذلك الزمان الذي سكن روح السلام وانتعش بأنفاس الرضى والهناء …!!
كانت قناعات العقول تأسر هوى النفس الغاوية وتحصرها عن التحرر من قيود الحياء او الالتزام ..في الماضي كنت طفلة ..كان اليوم يبدأ بصوت الديك المزعج وطرقات والدي القوية على باب الغرفة لإيقاظنا لصلاة الفجر ..وكانت ساعات العصر تعني لحظات مرحي وانطلاقي .. و حين يبدأ المساء يعلن نهاية اليوم وبداية رحلة الأحلام الوردية على مخدتي الندية بعطر والدتي التي ترقد بجانبي حتى أغفو .. وهكذا تمر أيام الأسبوع بهدوء مريح وملامح بسيطة أساسها الرضى ...
في نهاية الأسبوع تكون قصص ومغامرات ومواقف كثيرة تخزنت في الذاكرة ..وحين نقصد منزل العائلة الكبير نسكب تفاصيل ما صادفنا طوال الأسبوع المنصرم على مائدة الحوار..أمسيات نهايات الأسبوع كانت تحتضن العائلة في جو هادئ أساسه حوارات راقيه بين والدى وأعمامي عن الأحداث البسيطة التي قرءوا عنها او سمعوها من الإعلام المقنن في تلك الفترة ..فأشبعوها تحليلا وتفصيلا بانتظار حدث جديد يثير حفيظة المعقول والممكن حسب معالم ومدارك الناس في تلك الفترة …
كثيرا ما كنت استمتع بتلك الحوارات ..واسعد بقصص نساء العائلة والجيران في جلسات "الشاي" الذي تعده ربة المنزل وتتسامر عليه السيدات ..وبين اهتماماتي المحصورة في كتبي ودميتي ومسابقات الركض التي كنت أخوضها مع الصبية في "الحارة" بحذر شديد لكثرة تحذيرى من اللعب معهم …
كنت استمتع بكل ما أمارسه دون استثناء ..وطوال شهور السنة المنطوية او المشرفة ..كنا نترقب شهر رمضان ولياليه المميزة وقناديله الزيتية الباهتة وسهراته الروحانية التي تسامر إيمان القلوب الطيبة في ذلك الزمن السحيق .. وحتى ليلة العيد في ذلك الوقت كانت مصبوغة بلون الفرح ..ومكسية بضحكات الأطفال والكبار .. واجتماعات الأسر على ولائم التواصل الوجداني والفكري ..بعيدا عن التقاء الأيادي في طبق واحد مشترك ..حيث كان الهدف من الاجتماع تبادل المكتسبات والموروثات العاطفية والفكرية ووشايات الذاكرة التي تبث انفعال جميل على ملامح الحاضر ..
وحتى عندما بدأت أودع أجواء البهجة والمرح التي تسكن ملامح الطفولة في مظهري لأستقبل أنوثتى بخجل ..كنت أرى الوجود جميلا ..كانت مدرستي عالمي المنفتح على علاقات كثيرة خارج إطار العائلة والجيران ..كنت أمارس فيها اكثر ساعات اليوم حركة وتجديد ..اصطدم كل يوم بمعلومات جديدة تكون شاغلي لا حقا لأخلدها في الذاكرة حتى يوم الامتحان ..حينها كان النجاح مطلب وهدف كل المنتمين لحقل الدراسة والتحصيل ..وتحت أي ظرف مهما تحددت الإمكانيات وتقلصت حتى ولو على ضوء الشموع حين ينقطع التيار الكهربائي كان لابد من المثابرة حتى لو كان على ضوء شمعه تهدد بأخر رمق لها فى محاربه الضوء…
كانت اهتمامات جيلنا الناشىء محصورة في إطار نقى ومحدود .. وكانت النفوس نقية ..وكل مرحلة عمريه تحمل سمات معينة من غير الوارد ان نتخطاها ** فيما عدا بعض المحاولات التي لا تتعدى اسوار المحظور وذلك حين كنت امثل دور المرأة وارتدي العباءة وادعي التبرج في الخفاء ..وحين كان شقيقى يصدر اصوات مضحكة تصور حلمه العملاق في ان يستقل سيارة سريعة ويغزو بها شوارع المدينة الرابضه باجواء الهدوء ..
كنا نسابق الزمن ..ونمثل الأدوار التي يمنعوننا من ممارستها في الحاضر نتقن لعبة الزفاف ماأن نجتمع وابناء الجيران حتى نتنافس من منا نحن البنات تمسك بذراع ابن الجيران لتزف له وننام منتشيين بحلم الغد والليله ..
وحين انتهت مرحلة المثابرة المدرسية ودخلت عالم الجامعة والمحاضرات وسكبت كل أمنياتي على أعتاب بوابة الحرم الجامعي مع اول خطوة توجهت بها نحو مستقبل واعد هناك ..وفي تلك اللحظة اكتشفت لأول مرة اني انفصلت عن كل ما تعلمته ورسخته في وجداني وذاكرتي ..حين بدأت أرى الانفتاح والتحرر يغزو ابسط ملامح البشر و أبرزها ..وحين أسعفني إدراكي المحصور على الوقوف على الاستهداف المشين الذي تشنه علينا حضارات الغرب ..في البداية وطبعا قبل هذه المرحلة تقاطعت مع ملامح الحضارة والتحديث التي زحفت إلينا رويدا رويدا من وراء البحار ..لكنها كانت ملامح مقبولة تبعدنا عن هوة الجهل والانغلاق التي كادت ان تخنقنا ..لم ندرك حينها انها بداية النهاية .. ..
اليوم ..وفي عالمي الواسع كثيرا ما تستبد بي هواجسي و وساوسي التي تجرني الى سراديب القهر وسؤال عميق يصطك وحشة في برد الواقع وصيف المضمون ..ما هو مستقبلنا ونحن نقفز قفزات كبيرة نحو الهاوية باسم العولمة ؟
اليوم أبنتى طفلة في التاسعة من عمرها ..لكنها مشوشة ..تبحث عن ملامح أنثى تسكن داخلها ..تسعى لأن تبعثها من العدم لتتعايش معها ..وحاضرها اخرس لا يحتج ..يرضى بملامح مزيفة تثير التحفظ والقرف ولا تثير استنكاره !! ..وأختي مراهقة تدعي النضج وتمثل الوعي من مكتسباتها التي تجمعت عبر صفحات الإنترنت وقنوات الفضائيات السقيمة ..ترفض الدرس وتغني امام معلمتها أغاني سخيفة تطلقها "برتني سبيرز" و أقرانها لتسمم ذوق أبناءنا .. بينما تصرخ المعلمة المسكينة بوجهها محتجة على إهمالها..وتبدى تزمرها وسخطها حين أوبخها انه عليها ان تبلور شخصيتها بشكل صحيح وقوي وتستقل بفكرها كما يفعل جيل المراهقين هناك في بلد العم سام !! ..
اليوم والدى مشغول ..ووالدتى نائمة حتى ساعات الظهيرة التي تحرق فيها الشمس كبد الأرض الحزينة تعانى كثرة السهر امام التلفاز تندب حظها امام قناة ياليل ياعين وتدعو بغيظ على نيكول ورزان وجاكلين ..وأنا تائهة أجد الأمر غريبا ..واتسائل في صمت من المسؤول ؟! ومن يتحمل ذنب هذه التجنيات والمآسي التي اقتحمت ابسط ملامح ممارستنا السعيدة و علاقتنا الاجتماعية وخلفياتنا التي تكونت على مر السنين .. وأخلاقياتنا ومثلنا وقبل كل ذلك تعاليم شريعتنا السماوية ؟ …
وفي نهاية الأسبوع بعد ان تمر أيام الدوام وابحث عن واحة ظليلة تحتوي معاناتي وترفع معنوياتي وتكتنف أحلامي..أتذكر ان الموت خطف جدي وجدتي ..وقتل ذكراهم وأمسياتهم ..وهدم البيت الكبير الذي طالما تجمعنا خلف جدرانه الحنونة !! …ربما لأنه لا ينتمي الى هذا العالم الصاخب المزيف فانهار زمنهم وبه مات عصر وزمن جدى النزيه والآمن رحمك الله يازمن انجب الرجال….
اليوم …اصبحت سهرات الجيران تمتد حتى ساعات الصباح الأولى وتجمع وجوها جديدة في كل مرة ..وبين الحديث عن آخر صرعات الموضة التي تختصر الفساتين الى حدود محرمة لا تحتاج الى اكثر من نصف متر..والقمصان والتى شيرت التي تكشف اكثر مما تستر وما الى ذلك مما نراه كل يوم على القنوات اللبنانية وغيرها التي انتقلت الى عالمنا وتجمعات فتياتنا دفعة واحدة ..و بين ابتكارات الطبخ المقتبسة من مطابخ الغرب واقصى الشرق حيث تؤكل السحالي والضفادع وكل ما جمع اللحم فوق العظم مهما اختلف وتخطى أشكال القرف .. وحتى دخان "الأرقيلة" المتطاير على صفاء النفوس وملامح الوجوه ..تتسامر سيدات المجتمع ..وتترك عائلتها كل في عالمه الخاص..
ولازال الزحف مستمرا ..زحف الحضارة المغلفة بزيف التمدن وهي تسكن جسد التخريب والهدم ..وهي تفرض نفسها على حقنا في الحياة البسيطة تحت شعار القناعة ..قناعة الزوج بزوجته ..والمرأة الشرقية بجمالها وعفتها ..والطفلة ببراءتها ونقائها ..والمراهق بنشاطه واندفاعه بروح الشباب ..والعائلة العربية باللقمة الطيبة ببهارات الشرق على مائدة واحدة ..والمواطن البسيط بأبسط المتاح حتى في قنوات التلفزيون السعودية الأولى والثانية والتى تمردنا عليها وبصقنا في وجه الشاشه وضحكنا حتى النخاع ونحن نقارن مايقدم فى القناة الاولى المملكه هذا الصباح ومايقدم بالمستقبل ما ألك الا هيفا وبذلك اصبح مسمى قنواتنا غصب أول وغصب ثانى .. !!
ولنقيس على ذلك كل ما استحدث على عالمنا وماضينا الجميل ..باسم التحضر والعولمة .
انه لعسير على فهمي وإدراكي التعايش مع كل ذلك ..يبدو غامضا ومبهما ..
اين المنطق في كل ما يحدث ؟؟ خاصة حين اقف على التاريخ المدون على صفحة التقويم لأدرك ان ما كان في الماضي لم يكن الا من عشرين سنة مضت فأنا اليوم احتفل بالثلاثينات ..وقد أخذني قطار الزمن الى محطات الذاكرة الدفينة بسرعة خاطفة حين هممت بالتأكد من ان اليوم هو الخامس والعشرين من الشهر الأخير في السنة المنصرمة وهو اليوم الذي يصادف يوم ولادتي ..حيث لم أجد من يتذكر ذلك ليهنئني به من عائلتي وأصدقائي وهو أمر لم يحدث لي من قبل **لكنه سيتكرر كثيرا بسبب انشغالهم بالبحث عن معضلة سياسيه يتناوبون للحديث عنها ورحمة الله على ماضينا وأحلامنا النزيهه… !!
تحياتى..!!
حنان/مررت من هنا
Bookmarks