يقول نبينا صلى الله عليه وسلم ( إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) عندما قرأت هذا الحديث تذكرت قول احد المشائخ عندما قال لو علمتم مافاتكم من الرزق بسبب المعاصي والذنوب لقتلتم انفسكم حسرات
فتعال نبحر في روائع أبن القيم الجوزية - رحمه الله - حول أثر الذنوب والمعاصي على الفرد
يقول رحمه الله
وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة * والمضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه الا الله.
1- فمنها : حرمان العلم * فإن العلم نور يقذفه الله في القلب* والمعصية تطفيء ذلك النور . ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته* وتوقد ذكائه* وكمال فهمه* فقال : إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية.
2- ومنها حرمان الرزق: وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق فترك التقوى مجلبة للفقر* فما استجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي.
3- ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله* لاتوازنها ولاتقارنها لذة أصلاً* ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تَفِ بتلك الوحشة* وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة فدعها إذا شئت واستأنسِ. وليس على القلب أمَرُّ من وحشة الذنب على الذنب فالله المستعان.
4- ومنها الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس* ولاسيما أهل الخير منهم* فإنه يجد وحشة بينه وبينهم* وكلما قويت تلك الوحشة بَعُدَ منهم ومن مجالستهم* وحُرِمَ بركة الانتفاع بهم* وقَرُبَ من حزب الشيطان بقدر ما بَعُدَ من حزب الرحمن* وتَقْوَى هذه الوحشة حتى تستحكم* فتقع بينه وبين إمرأته وولده وأقاربه* وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشا من نفسه* وقال بعض السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خُلُق دابتي وإمرأتي.
5- ومنها تعسير أموره عليه ؛ فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه* أو متعسراً عليه؛ وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا* فمن عَطَّلَ التقوى جعل الله له من أمره عسرا. ويالله العجب! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لا يعلم من أين أُتيَ.
6- ومنها ظلمةٌ يجدها في قلبه حقيقة: يُحِسُّ بها كما يُحِسُّ بظلمة الليل البهيم* إذا ادلهم* فتصيرُ ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره* فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة* وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته* حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر* كأعمى أخرج في ظلمة الليل يمشي وحده.
7- ومنها ان المعاصي توهن القلب والبدن: أما وهنها للقلب فأمر ظاهر* بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية* وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته من قلبه* وكلما قوى قلبه قوى بدنه* وأما الفاجر فإنه وإن كان قوى البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه. وتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم* أحوج ما كانوا إليها* وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم.
8- ومنها: حرمان الطاعة؛ فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أنه يصد عن طاعة تكون بَدَلَه* ويقطع طريق طاعة أخرى* فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة* ثم رابعة وهلم جرا.
9- ومنها: أن المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته ولابد* فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور يقصر العمر. وقد اختلف الناس في هذا الموضع: فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه. وهذا حق وهو بعض تأثير المعاصي. وقالت طائفة: بل ينقص حقيقة * كما ينقص الرزق فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسبابا كثيرة تكثره وتزيده* وللبركة في العمر أسبابا تكثره وتزيده. قالوا ولا تمنع زيادة العمر بأسباب كما ينقص بأسباب - فالأرزاق والآجال والسعادة والشقاوة والصحة والسقم والمرض والغنى والفقر وإن كانت بقضاء الله عز و جل فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها موجبة لمسبباتها مقتضية لها. وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن تفوته حقيقة الحياة* وهي حياة القلب. ولهذا جعل الله سبحانه الكافر ميتا غير حي* كما قال تعالى (أمواتٌ غيرُ أحياء) النحل 12 – فالحياة في الحقيقة حياة القلب وعمر الإنسان مدة حياته* فليس عمره إلا أوقات حياته بالله* فتلك ساعات عمره* فالبر والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره ولا عمر له سواها. يوم يقول (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) الفجر 24 –.
10- منها أن المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا؛ حتى يَعٌزُّ على العبد مفارقتها والخروج منها* كما قال بعض السلف: أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها* وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
Bookmarks