أيها الأحباب: أمس فتشت في ارشيفي عن كل المقالات التي كتبتها منذ اندلاع القضية الجنوبية ووجدت من بينها هذا المقال الذي نشر في صحيفة الناس قبل ما يقل عن عامين تقريبا..
المقال كان محاولة لطرح احتمالات بعيدة.. ومناقشتها بجدية.. وكنت يومها متأثرا بأجواء تأليف كتابي الخيوط المنسية الذي هو أساسا مشروع بحث مستقل لسياسة الرئيس صالح بالنظر الى فترة حكمه للشمال ثم لليمن الموحد..
لا أدري اليوم لماذا شعرت أننا بالفعل نضيع على انفسنا فرص النجاح.. خصوصا وأنني كنت ولا أزال أحب الحراك وأعتبره دعوة ملحة لبناء دولة القانون مهما رفع من شعارات أساءت للتواد وجرحت الانتماء..
اسمحوا لي إعادة نشره هنا وآمل نقاشكم.. فوالله من قبل اندلاع احتجاجات الجنوب وعقلي لم يكف عن التفكير في ماهية نقاط الضعف التي تجعل مآسينا تتكرر حرفيا.. وأحلامنا تتأجل.. وأرجو من إخوتي الاعضاء المنتمين لمحافظات الجنوب ان ينسوا أنني من مناطق الشمال تماما كما نسيت أنا.. علما أنني لم أر أي جنوبي يحب الجنوب كما أحبه.. واسمحوا لي أن أصر على ذلك..
أقول ثمة فارق بين لعبة الساسة وبين عواطف الجماهير.. ووأحسب أن موقعي في نقطة وسط بين هذين.. تعب أن تحب بلادك في مثل هذه الظروف.. ومحزن إدراك تلك الفجوة بينك وبين من تحبهم..
يامراد محمد، ياأبوسعيد، يانجم الثريا، ياذويزن، يافتحي، يا أختكم، يامواطن بلا وطن، ياحسين الجنوبي، ياكتائب.. يا كل من يعرفون أوجاعهم فقط.. اتركوا بالله عليكم مطالبة ابناء الشمال بتقليد الحراك ومحاكاته.. المسألة ليست معقدة ولاهي بسيطة.. لكن المؤسف الآن أننا كمواطنين الضحية وأداة التنفيذ في نفس الوقت.. وقد ينتهي زمن المأساة ويقع الفأس على رؤسنا دون أن نعرف بالضبط لماذا حدث ما حدث.. وبعد تفكير ممض أقول وأحسب أن في قولي عمقا عميقا، "لو لم نكن شعبا واحدا ما كان لذلك كله أن يحدث.."
وليمة لأعشاب الجنوب!!
عادل الأحمدي
اصبروا عليّ حتى آخر المقال.. ذلك أن هذا التفسير الذي أود إيراده في هذه المساحة بدأ يسيطر عليّ في الفترة الأخيرة إلى درجة الوسواس القهري خاصة بعد أن قمت بمحاولة لإعادة النظر في أحداث الجبهة نهاية السبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي..
لازال الوعي الجمعي للناس يرى في أحداث الجبهة وما سمي بحركة التخريب في المناطق الوسطى عملاً عدوانياً منظماً شجعته وأوعزت به حكومة الشطر الجنوبي بدافع الوحدة بالقوة وعلى النمط الماركسي ضمن الحرب الباردة بين معسكري العالم آنذاك وجزء من هذا صحيح لكن السنوات والعقود تثبت الآن أنها خدمة جليلة قدمت لعلي عبدالله صالح إن لم تكن صناعة أصيلة من لدنه.
فمن خلال مواجهات المناطق الوسطى استطاع صالح أن يلملم صف ما يسمى مناطقياً بأصحاب مطلع الذين كان جزء كبير منهم غير مقتنع بالرئيس الجديد.. ضف عليه أنه استدر الخزانة السعودية والأمريكية واكتسب تعاطف الخليج وقام بقمع الرؤوس العنيدة في المناطق الوسطى والتي كانت يومها مشروعاً سياسياً صاعداً لم تقم له قائمة حتى الآن..
زد عليه أن الرئيس بحرب الجبهة كسب تحالف الإسلاميين وتمكن من رسم خارطة وجاهات اجتماعية جديدة في المناطق الوسطى قائمة على الفرز الولائي ضد الجبهة.. ثم هو كذلك تخلص من كثير من أساطين اليسار الذين كانوا يحملون هماً وطنياً راعباً وإن كان دموياً ومتطرفاً. في حين تفرغ محمد خميس في تلك الفترة لتصفية من تبقى من كوادر الانقلاب الناصري 15/ 10/ 1978 واللافت حينها ما يلي:
أنه طيلة حرب الجبهة كان التواصل بين قيادتي الشطرين على أشده وكان عبدالله أحمد غانم سكرتير هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى في الشطر الجنوبي وحسين الدفعي مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الوحدة في الشطر الشمالي شبه مقيمين في الجو على متن الطيارات من عدن إلى صنعاء والعودة. أي أن علاقة قيادتي الشطرين أيامذاك كانت حميمة والتنسيق بينهما كان يتم بمعدل مرتين على الأقل كل أسبوع.
علاقة الرئيس بالسوفيت يومها كانت هي الأخرى قوية وقام بأخذ المعونة السعودية ليشتري بها سلاحاً من موسكو بما يزيد على 750 مليون روبل..
يومها كان الجنوب –كعادتهم- وحدوديين وكان الرئيس انفصالياً ووحدها المناطق الوسطى كما هي العادة تدفع ضريبة الوحدة..
حينما كانوا في الجنوب مع الوحدة ولو بالقوة كانت المناطق الوسطى رماحهم وسيوفهم وكان منها الشهداء الذين لم يدخلوا أي كشف.. ذات الشيء في 1994 والمؤسف حقاً أن تجد من إخواننا الآن في الجنوب من يعاير أبناء المناطق الوسطى على ذلك ويصفهم بأكراد اليمن.. "لا كانوا مرتاحين مع صدام ولا نالوا مرادهم مع بريمر"!!
الشاهد أنه لا يستبعد البتة أن تكون أحداث الجبهة صناعة صنعاء بلا فخر.. تماماً كما هي محطات عديدة لم يتسن لنا كيمنيين حتى الآن أن نقرأها جيداً لندرك بعدها أن علي عبدالله صالح داهية أكثر مما نتصور!!
الآن: جاحد أو مزايد أو جاهل من ينكر خصوصية الوجع في المحافظات الجنوبية وأنه وجع يستحق أن تخرج من أجله المسيرات والاحتجاجات لكن اللافت والمؤسف أن سيناريو توظيف أحداث الجبهة يكاد يتكرر بشكل أسوأ:
المعارضة الآن تحارب (بفتح الراء) في الجنوب من على المنابر.. والمحتجون نجحوا في ابتلاع الطعم وحشرتهم السلطة إلى الخانة الضيقة التي تستطيع ضربهم فيها وهي خانة الشغب وشعارات التشطير..
الخلايا النائمة بانت وعرفت.. والمواطنون نفسوا عن أنفسهم والحلفاء الجدد (الظاهرون والمخفيون) أصبحوا رصيداً جديداً في بنك الرئيس والمؤتمر.. وغلاء البُر مرَّ بلا مدافعة شعبية وحزبية تعيد للمسؤولين عقولهم وضمائرهم. والاستحقاقات الانتخابية والأسئلة المعلقة فاتت دون أن تقال.. وخطة الانتشار الأمني الكثيف وجدت لها الآن غطاءً تتمدد في أفيائه ولا تبالي!!
خسر المحتجون بشعاراتهم العنصرية والشطرية تضامن قطاعات واسعة ومسحوقة من كافة المحافظات.. كما خسروا تضامن المعارضة كجناح سياسي يفهم إلى حدٍ ما، أبجديات الضغط والمناورة.. زد على ذلك حب الزعامة وبروز رموز السلطنات الأمر الذي كمّل ما بقي!!
الآن.. ماعت القضية.. صار الموجان والهيجان بلا هدف نبيل ولا بوصلة حاذقة فيما المجتمع الدولي خاف من أن "ينتثر" الوضع أكثر فيتحول الجنوب إلى مخبأ آمن للقاعدة وجيش عدن أبين وبلاد أسامة بن لادن!!
هكذا يهندس صالح.. والرجل هذا داهية.. وهو يستمد نجاحاته المتوالية من عدم تعامل منافسيه مع هذه الحقيقة.
ربما تكون الوحدة وفق ما سبق هي الرابح الاستراتيجي مما حدث.. لكن ما كان يؤمله كل الشرفاء هو أن تظفر الوحدة والمظلومون.. غير أنها، للأسف، عادة الفقراء: يلحقون الأذى ببعضهم البعض. ليصل الساسة (الحجارة) إلى ذات المؤدى: "هولا غوغا.. رباح".. الخ ما هناك من عبارات التهكم الارستقراطي السمج..
سيمر الزمان ويذهب الساسة ويرحل المؤتمر والمشترك وعلي عبدالله صالح والجفري وقحطان وباصرة وباجمال والحوثي والمتوكل والبركاني والإرياني وبن فريد والنوبة والمعطري وعلي ناصر وعلي سالم وعلي محسن وعلي مقصع وعلي عبده.. والخ والخ.. ويبقى هذا الوطن الذي يتصرف فيه أبناؤه الآن كالعفاريت. الظالم منهم والمظلوم.. الحاكم والمحكوم.. كل ما في الأمر أيتها الأجيال التي ستأتي بعد دهر.. أننا لا نحفل بكم كما لم نحفل بنا.. وأننا تركنا المبادئ الكبيرة والعظيمة مطلَّقة معلقة مثل قمر المدينة: لا يؤبه له..
الأزمة أزمة كيفيات.. وأزمة وعي.. وأزمة ولاء وانتماء.. وأزمة أولويات.. لهذا يتهافت الجميع على نكث ما غزلوه ليغدو المنتصر في الأخير: لا أحد..
Bookmarks