يقف محافظون مخلصون للفصحى موقفاً سلبياً من الشعر الشعبي الذي يسمى الشعر الزجلي في لبنان، والنبطي في الجزيرة العربية. فهم يخشون من شيوع هذا الشعر واقبال الجمهور عليه نظراً لقربه من الهموم الشعبية العامة وتعبيره تعبيراً صادقاً عفوياً عن أدق مكنونات القلب البشري، ويزيد في خشية هؤلاء المحافظين المخلصين عزلة الشعر التقليدي أو الكلاسيكي عن الحياة والتزامه حياة أخرى هي حياة القواميس والمعاجم، وتتبعه أساليب الأقدمين وطرائقهم في القول والنظم. وكل ذلك يزيد في انتشار الشعر الشعبي حتى في أوساط المثقفين.
ويبدو ان موقف هؤلاء المحافظين المخلصين للفصحى من الشعر الشعبي ليس موقفاً جديداً. فقد وقفه محافظون آخرون في ذلك عندما شاهدوا زجل ابن قزمان وسواه من الزجالين الأندلسيين ينتشر ويتحول الى ظاهرة ادبية واجتماعية لافتة في مجتمعات الحواضر الأندلسية كقرطبة واشبيليا وغرناطة. فخافوا وذعروا واهملوا الاشارة الى هذا الشاعر في كتبهم ومؤلفاتهم. فابن بسام الشنتويني المتوفى سنة 547ه، وعبدالواحد المراكشي المتوفى سنة 647ه، امتنعا عن ذكر شيء من نصوص تلك الفنون الشعبية، وصرحا بذلك الامتناع. وفعل فعلهما الفتح بن خاقان المتوفى سنة 529ه، في كتابيه (قلائد العقيان)و(مطمح الأنفس) وان لم يصرّح بهذا الامتناع، وكأن هؤلاء رأوا في ايرادهم شيئاً من نصوص تلك الفنون تشجيعاً لها، واغضاضاً للأدب الفصيح الأصيل الراقي.ولكن ما فعله ابن بسام وعبدالواحد المراكشي والفتح بن خاقان، لم يحل دون انتشار هذا الأدب والشعر الشعبي في أوساط المثقفين والشعب على السواء. بل ان هذا الأدب أخذ ينتشر في بلاطات الملوك وقصور السلاطين جنباً إلى جنب مع الشعر الفصيح. وهذا بحد ذاته امر لافت للنظر لأن هذه البلاطات كانت عبر التاريخ قلاعاً للفصحى. وهذا ان دل على شيء، فعلى ان اللهجة العامية، أو المحكية، استشرت في المجتمع العربي الأندلسي مع تقادم العصور وتوالي الأجيال، وأصبحت لغة التخاطب والتعامل في مجالات الحياة كافة، ووجدت طريقها سالكة الى ذوي المستويات السياسية والثقافية العالية، وكذلك الى اصحاب السلطة والمراكز الحساسة في الدولة.
بل ان التاريخ ينبئنا حقائق في هذا المجال اولها ان الشعر الشعبي انتقل من ألسنة العامة من الشعب ليجري على ألسنة كبار شعراء الفصحى في الأندلس مثل محيي الدين بن عربي ولسان الدين بن الخطيب وابي الحسن الشثري الذي وصفت أزجاله بأنها "في غاية الحسن" و"في غاية الانطباع". وكأن هؤلاء الشعراء عندما لمسوا رواج هذا الشعر واقبال الناس عليه، وجدوا ان لا مناص لهم من التعامل معه وتوسله.
وفي تاريخ هذا الشعر الشعبي ايضاً ما يفيد انه بعد ان سجل كل هذه الانتصارات في الأندلس، غزا المشرق العربي وحقق انتصارات مماثلة، فبات شعراء بغداد وبقية حواضر المشرق يتوسلونه ايضاً، نظراً لقدرته على التعبير ببساطة عن مشاعر الناس وعجز القصيدة الكلاسيكية المقعرة عن الدخول الى قلوب العامة وعقولها.
ويبدو ان امير الشعراء شوقي، في عصرنا الحديث، وجد فضائل كثيرة في هذا الشعر الشعبي فكتب قصائد كثيرة لحنها وغناها المطرب الصاعد يومها محمد عبدالوهاب. ولم يكن فعل شوقي هذا بمثابة اساءة الى الفصحى، وهو أمير شعرها والمخلص لها، بقدر ما هو تحية للعفوية والبساطة في التعبير.والواقع أن هناك جملة قوانين تحكم هذه المسألة اولها انه محكوم على الفصحى والعامية ان يتعايشا معاً تعايشاً سلمياً لا مفر منه: العامية في الأساس هي الفصحى وقد تراخت انظمتها وتساهل الناس في ضبطها صرفاً ونحواً. فلا الفصحى قادرة على التخلص من العامية ولا العامية قادرة على ان تسود وتلغي الفصحى. والحل هو بتعايشها ذلك التعايش المبدع الخلاق الذي من مقتضياته ان تنهل الواحدة من الأخرى وتمتاح منها على نحو ايجابي كما يجري الآن في اطار العلاقة بينهما: فالفصحى كثيرا ما تدخل تعابير العامة في اطارها فتكسب قرباً من الحياة وتفاعلا خصبا معها. والعامية عندما تطمح الى الارتقاء كثيراً ما تلتفت الى الفصحى لتتوسل تعابير مختلفة منها.
ثاني هذه القوانين ان الفصحى كلما ابتعدت عن الحياة العامة وقصّرت في تلبية حاجة الناس الى ادب وشعر يعبر عن مشاعر القلب البشري وتطلعاته، قدمت نوعاً من استقالة من وظيفتها، وأعطت العامية مبرراً للوجود وسبباً موجباً لأدائها لعملها. وأذكر في هذا الاطار ان توفيق الحكيم قال لي مرة: "إذا وجدت الأدب الشعبي يتقدم ويزدهر، فلا تبحث طويلا عن السبب. السبب يكمن في ان جماعة الفصحى قد استقالوا وجعلوا الفصحى تستقيل معهم، ولأنه لابد من ان تنبري جهة ما لتقديم ذلك الغذاء الروحي والوجداني الذي يحتاجه الناس ويجدونه قريبا منهم"!.
وقد وجد الناس في شعر الرحابنة وفي شعر ميشال طراد وطلال حيدر هذا الذي يحتاجونه ويجدون انفسهم فيه. تماماً كما وجد العربي، وبخاصة في ارجاء الجزيرة العربية، مبتغاه الشعري والفني في شعر الأمير خالد الفيصل وصحبه شعراء هذا الشعر الشعبي الجميل الذي يترنم به العربي في المدن والبوادي ويدخل قلبه بسهولة.ولو اردنا اخيرا ان نؤصل لهذا الشعر الشعبي وان نبحث عن اسباب اخرى لذيوعه وانتشاره، لقلنا انه وليد التطور الحضاري والاجتماعي. فعندما تبدأ الحضارة بالدخول ومعها التطور السريع في كل شأن من شؤون الحياة، تعجز الفصحى احيانا عن المواكبة والتفاعل. عندها يتقدم الأدب الشعبي ليسد هذا العجز، ولو الى حين، ودون ان يستطيع المحافظون المخلصون ان يفعلوا شيئا لردع هذا الذي يسمّونه هجيناً مفتقراً إلى الأصالة، والذي، لو أنصفوه، لاعتبروه ابناً باراً لتراثهم، ولاحتضنوه كما احتضنوا اخاه الشرعي الآخر
Bookmarks