قرأت في أحد المجلات الشعبية أيام البساطة الفكرية ، بأن قوماً قالوا لمولىً لهم : تمن ياعبد !
فقال : أتمنى الروض أخضر ، والقمر أبدر ، وأنا لا أموت ولا أكبر !
لا أموت ولا أكبر !
حسناً ..ولأجل خاطري فلندع التركيز في حكاية الروض أخضر هذه، والقمر أبدر تلك !
فأما الروض الأخضر فقد سهل الوصول إليه ، وأما القمر الأبدر ففي إنارة البلدية غنىً عنه !
ودعونا في " لا أموت ولا أكبر " !
وحسناً مرة أخرى.. ولئلا نقلبها نكد وهي أصلاً نكد ، لنركز في " ولا أكبر " ولندع " ولا أموت " !
عن نفسي – وما ذاك إلا لنقص إيماني وعقلي – فتشغل بالي مسألة العمر هذه أكثر من مسألة الموت ! ولعل مرد هذا والله أعلم بأني أتعاطى وخزات الكِبَر يومياً ، وأما سكرات الموت فإني لم ولن أتعاطاها إلا مرة واحدة فقط !
وللامانة فكلاهما يتشابهان ويرتبطان ! فالعمر طريق الموت ! والموت محطة العمر الأخيرة ! وكذلك فهما متشابهان في الغدر والفجاءة ! فإنك لا تلبث إلا وقد قيل " لك " ( يا عم ) ! ولا تلبث إلا وقد قيل " عنك " ( رحمه الله ) !
ولنترك المحطة ( الكريهة ) – الموت - ولنعد إلى الطريق ( الغالي ) – العمر - ! فمشوار العمر وسفره هو الوحيد الذي لا يتمنى مسافره أن يصل لمحطته بسلامة أو بغير سلامة !
والعمر وخياناته وغدراته غريبة كثير الشيء ! ذاك أن ألذ أيامه هي أغدر أيامه !ولذا فضحه أهل المشيب فقال أحدهم :
شيئان ينقشعان أول وهلةٍ *** ظل الشباب وخلة الأشرار

ومع هذا فإن أمر هذا العمر مع ابن آدم غريب جداً ، فهو يتفلت منه دون أن يشعر ، ولا يوقظه إلا بعد أن يكون قد أجهز عليه تماماً ، ليردد بعدها ابن آدم بغباء متكرر على مدى القرون:
ألا ليت الشباب يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب !

سبحان الله يا ابن آدم تهدد الوفي الذي لا يتركك حتى تموت ( المشيب ) بالذي غدر بك وتركك ( الشباب ) !
ألم أقل لكم بأن أمر العمر غريب مع السيد آدمي !
وللأمانة الشخصية فأنا مثل أجدادي الذين ماتوا وفي حلوقهم غصة على المدعو " عُمُر " ! كما وأني مثلهم في زيادة الحنق عليه أيضاً، لأنه – أي العمر - سريع الخطو ،كثير الاستغفال ، يسرقك دونما تشعر ، تنساه ولا ينساك ، تقطعه ويقطعك ، تحسبه ولا يحسبك ، يأخذ منك ولا يعطيك ،إن تذكرته حزنت ، وإن تأملته عجبت ، تسير بزيادته ،ويسير بنقصانك ، تأخذ له ،فيأخذ منك ، تتمنى له القوة ، ويسير بك إلى الضعف!!
فياله من لكيع ،وياله من غادر ، زيادته نقص ، وكثرته قله ، وغناه فقر .ثم هو سريع الغدر ،كثير النكث ، تفتنك صبوته ، وتحزنك غدرته ، يزخرف لك البعيد ، ويزهدك بالقريب ، فتذهب للبعيد ،فلا تجد سوى أسىً على مامضى ،وتلذذاً بتذكار ما انتهى .فلا أنت بقيت ، ولا أنت أبقيت ، ومع هذا تحبه بأحواله غدراً كان أو وفاء !!
ومع غدرته بك ، ووفائك له ،إلا أنه لا يأبه لتمنيك ، ولا يأسَ لتأسيك ، فهو جامد مالح ،يزيدك شربه عطشاً ،وطوله تعلقاً ، ثم هو ماض على حاله التي فطره الله عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ولا إصغاءً لمن تشعبث به من خلق الله !!

ولعل من اللطيف ذكره ومع طويل شتمنا لهذا العمر وتحذيرنا من غدره بأننا نحبه جيداً جداً ، بل إن الشاعر الذي فضح هذا الغادر الناكث وأخبرنا عن سرعة انقشاعه هو بذاته الذي قال في ذات القصيدة الفاضحة الراثية للعمر ما نكشه :
لا حبذا الشيب الوفي وحبذا *** ظل الشباب الخائن الغدار

فهل رأيتم مغدوراً يحب غادراً إلا نحن !

وعموم القول وخلاصته ..بأني لا أريد أن أكبر !
لكن بشرط ..
ألا أموت !
انشاء الله تعجبكم معا تحياتىهاله