عزيزتي الآنسة مي .

لقد أعادت رسالتك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها موكباً إثر موكب . تلك الأشباح التي ما ثارت في أوربا حتى انزوت محتجبة بالسكوت – وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله .

هل تعلمين يا صديقتي أنني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة * وهل تعلمين بأنني كنت أقول لذاتي هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلاداً لها وقومي قوماً لها * هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه الأنشودة في إذن خيالي كلما وردت عليّ رسالة منك ؟ لو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ- وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة .

وماذا أقول عن كهوف روحي ؟ تلك الكهوف التي تخيفك – إني التجئ إليها عندما أتعب من سبل الناس الواسعة وحقولهم المزهرة وغاباتهم المتعرشة. إني أدخل كهوف روحي عندما لا أجد مكاناً آخر أسند إليه رأسي * ولو كان لبعض من أحبهم الشجاعة لدخول تلك الكهوف لما وجدوا فيها سوى رجل راكع على ركبتيه وهو يصلي .

أما استحسانك الرسوم الثلاثة في المجنون فقد سرني ودلني على وجود عين ثالثة بين عينيك * وقد طالما عرفت أن وراء أذنيك آذان خفية تسمع تلك الأصوات الدقيقة الشبيهة بالسكوت – تلك الأصوات التي لا تحدثها الشفاه والألسنة بل ما وراء الألسنة والشفاه من الوحدة العذبة * والألم المفرح * والشوق إلى ذلك العالم البعيد الغير معروف .

وأنت تسألين ما إذا كنت أريد أن يفهمني أحد بعد قولي :
"
لأن الذين يدركون خبايا نفوسنا يأسرون شيئا منها"
لا * لا أريد أن يفهمني بشري إذا كان فهمه إياي ضرياً من العبودية المعنوية . وما أكثر الذين يتوهمون أنهم يفهموننا لأنهم وجدوا في بعض مظاهرنا شيئاً شبيهاً بما اختبروه مرة في حياتهم . وليتهم يكتفون بادعائهم إدراك أسرارنا – تلك الأسرار التي نحن ذواتنا لا ندركها – ولكنهم يصموننا بعلامات وأرقام ثم يضعوننا على رف من رفوف أفكارهم واعتقاداتهم مثلما يفعل الصيدلي بقناني الأدوية والمساحيق ! أوليس ذلك الأديب الذي يقول بأنك تقلدينني في بعض كتاباتك من هؤلاء البشر الذين يدعون فهمنا ومعرفة خفايانا؟ وهل تستطيعين إقناعه بأن الاستقلال هو محجة الأرواح وإن أشجار السنديان والصفصاف لا تنمو في ظلال بعضها البعض ؟

ها قد بلغت هذا الحد من رسالتي ولم أقل كلمة واحدة مما قصدت أن أقوله عندما ابتدأت . ولكن من يا ترى يقدر أن يحول الضباب اللطيف إلى تماثيل و أنصاب ؟ ولكن الصبية اللبنانية التي تسمع ما وراء الأصوات سترى في الضباب الصور و الأشباح .

والسلام على روحك الجميلة ووجدانك النبيل وقلبك الكبير والله يحرسك .