عندما تتعب الروح ما هو العلاج ؟
عندما يتعب الجسم فالعلاج هو بالراحة ، و لكن ما هو العلاج عندما تتعب الروح ؟
لقد ثبت أن التعب النفسي يحطم الانسان أكثر من التعب الجسمي ، و معالجته لا تكون بالراحة والسكون حتماً .
إن التعب النفسي هو واحد من المعوقات الرئيسية لنمو الانسان في شخصيته الداخلية ، و علاقاته الاجتماعية . و لذلك كان لابدّ من تسليط الضوء عليه ببعض التفصيل ، فليس هناك ما يوهن العزيمة أكثر من القصور عن النجاح والتخلف حيال جدار يسد الطريق و يحول دون التقدم فينتهي الأمر بالدوران في حلقة مفرغة فالفشل يولّد التعب ، والتعب يبعث على استصعاب العمل ، واستصعاب العمل يفضي إلى الإخفاق .
و يعاني المرء وطأة التعب في مجالين رئيسيين : تعب البداية ، و تعب الأداء .
ففي الحالة الأولى ، يستمر المرء في تأجيل الشروع في عمل هو ملزم على نحو ما بإنجازه ، و ذلك إما بسبب طبيعة العمل المملة ، أو بسبب صعوبته ، فيميل إلى التهرب منه . و كلما طالت مدة التأجيل كلما تزايد شعور المرء بالتعب .
و تعب البداية تعب حقيقي بالفعل ، و إن لم يكن في الواقع تعباً بدنياً ينتاب العضلات و يرهق العظام . و لهذا النوع من التعب ، علاج جلي واضح ، على الرغم أنه غير سهل التطبيق ، عنيت به ممارسة الإرادة .
أمّا تعب الأداء فهو أمر تتطلب معالجته مزيداً من الصعوبة بحيث أن المرء ، في هذه الحال ، لا يتقاعس عن الشروع في العمل ، و إنما يبدو قاصراً عن إنجاز المهمة التي يقوم بها ، لأسباب لا يمكنه التغلب عليها مهما بذل من الجهد ، فينتابه الفشل تلو الفشل و تتراكم صدماته عليه و يتفاقم لديه ، من جراء ذلك ، عبء الشعور بالإجهاد العقلي .
فإذا كان التعب هو من نوع تعب البداية ، فإن هنالك أحد حلّين :
إمّا أن تبدأ من الأسهل فالأصعب ، و ذلك هو طريقة أغلب الناس الذين يبحثون عما يريحهم . و قد لا يكون ذلك طريقة ناجحة ، حيث يبقى كما هو مصدر إزعاج في مكانه و يضغط على الأعصاب .
و إمّا أن تبدأ بالأصعب ، فتفكّ مشكلته . و هذا ما يوصي به رئيس تحرير دائرة المعارف البريطانية "مورتيمر آدلر" من خلال تجربته الشخصية ، فيقول : عندما أشعر بأنني أتأبّى القيم فوراً بعمل معين و أحاول أن أتنصل منه فأدسه تحت كومة من الملفات الأخرى التي يتعين عليّ أداؤها ، فسرعان ما أبادر إلى إخلاء مكتبي من كل الملفات ما عدا ملف هذه المهمة بالذات ، و أتصدى لإنجازها قبل سواها على الاطلاق .
فإذا شئت أن تتجنب "تعب البداية" ، فعليك دائماً بالتصدي أولاً لأصعب المهمات .
و يقول الرجل : "منذ سنوات ، حينما كنت أعد للنشر سلسلة "الروائع في عالم الغرب" ، شرعت في كتابة مائة و مقالين يتناول كل منها الفكرة الكبرى التي ناقشها كل من مؤلفي تلك الكتب . و قد استغرقت مني كتابة هذه المقالات التي كنت أعني بها إلى جانب أعمالي الأخرى ، عامين و نصف عام ، طوال سبعة أيام في الأسبوع . و لو كنت سمحت لنفسي بأن أتصدى أولاً للأفكار التي بدت لي سهلة بالنسبة إلى غيرها ، لما كنت انتهيت أبداً من ذلك العمل ، و لكنني التزمت بالقاعدة التي وضعتها لنفسي فصمّمت على أن أكتب المقالات بالترتيب الأبجدي الصارم من دون أن أتخطى أي فكرة صعبة . و كنت أبدأ يومي دائماً بالعمل الصعب الذي تمثله كتابة المقالات ، و في النهاية أثبتت الخبرة ، مرة أخرى ، أن هذه القاعدة مثمرة تماماً" .
أمّا عن تعب الأداء فإن الذي يجب القيام به هو ضرورة بذل أقصى ما هو مستطاع من الجهد ، ثم ترك الأمر في عهدة العقل الباطن .
و هذا أيضاً ما يوصي به الرجل السابق نفسه ، و يقول في ذلك : "عندما كنت أخطط للطبعة الخامسة عشرة من "دائرة المعارف البريطانية" ، كان عليّ أن أضع قائمة محتويات موضوعية لمقالات الموسوعة وفقاً للترتيب الأبجدي ، و بما أنه لم يسبق لهذا العمل مثيل ، ظللت أتطلع إلى الحلول يوماً بعد يوم ، و لكنها كانت تقصر كلها دون الهدف المنشود ، فتراكم عليّ التعب الذهني حتى كاد أن يغلبني .
و ذات يوم ، و قد أنهك عقلي ، دوّنت على الورق أمامي جميع الأسباب التي حالت دون حل هذه المشكلة ، و أخذت أقنع نفسي بأن ما يبدو غير قابل للحل هو "بالفعل" غير قابل للحل ، و أن مصدر الحرج كامن في المشكلة نفسها و ليس فيّ أنا . و بعد أن انتهيت من ذلك إلى مقدار من الإحساس بالارتياح اتخذت مقعداً مريحاً واستغرقت في النوم .
و بعد ساعة تقريباً ، استيقظت فجأة لأجد الحل واضحاً في ذهني . و في الأسابيع التي أعقبت ذلك كانت كل خطوة في تقدم العمل تحمل إليّ دليلاً جديداً على صواب الحل الذي استنبطه عقلي الباطني . و على الرغم من أن مشقة هذا العمل لم تقلّ عن ذي قبل ـ إن لم تكن قد زادت ـ إلاّ أن هذا العناء لم يصاحبه أي إحساس بالسأم أو الإرهاق و غدا النجاح الآن حافزاً لي و مشجعاً ، بمقدار ما كان الفشل باعثاً على التخاذل والوهن . و أحسست بتلك البهجة الناشئة عمّا يطلق عليه علماء النفس اسم (التدفق)" .
و على كل حال ، فإن أهم خطوة يجب اتخاذها لمعالجة التعب النفسي ، هو أن نحاول اكتشافه ، و هذا يتطلب أن نتخذ من التعب الذي يتعذر تعليله و لا يعود أمره إلى سبب بدني نذيراً يحملنا على رد هذا التعب إلى مصدره الحقيقي ، فنجدّ في البحث عن الهزيمة التي نحاول سترها و لا نبغي الاعتراف بها . و علينا بعد ذلك أن نشخّص سبب هذا الفشل . و قد نجد في بعض الحالات النادرة أن المهمة في حقيقة الأمر صعبة التحقيق و أنها تتجاوز طاقتنا . فإذا كانت الأمور كذلك ، فما علينا إلاّ أن نسلّم بحقيقة الوضع و نعتذر عن المضي فيه . و قد تكون العقبة كامنة في تأبّينا مواجهة المشكلة ، و هنا يكون الحل في معظم الحالات توجيه اهتمامنا بصبر و مثابرة إلى العمل المطروح و معالجته بكل ما نملك من مهارة و عزم ، مع الاعتماد على إلهام عقلنا الباطن .
و إذا ما ساورتك المشاكل المستعصية ، توقف بعض الوقت عن التفكير الواعي فيها ، وافسح المجال لعقلك الباطني كي يعينك على حلها ، فإنه لن يخذلك في تسع حالات من عشر و يوحي إليك بايحاد الحل .
وأما الخطأ الأكبر فهو أن نعتبر التعب العقلي و كأنه تعب بدني . ففي حال التعب البدني ، نستطيع أن نبرأ منه بأن نتيح لأجسامنا فرصة الراحة ، لكن التعب العقلي الناتج عن الفشل لا يمكن التخلص منه بالاستسلام له واللجوء إلى الراحة لأن ذلك يزيد المشكلة تعقيداً . و أياً تكن العقبة النوعية التي تعترض الطريق ، فلابدّ من إزالتها ، و بسرعة ، قبل أن يكتسحنا تعب الفشل .
إن قوة الروح تكمن في أحيان كثيرة في القدرة على التفوق على التعب ، كما تكمن في التغلب على اليأس والغرور ، و كل السلبيات النفسية .
Bookmarks