تعددت الأسباب، و اختلفت الآراء.. تشتتت المعاني في خضم أحداث لا توصف إلا بمسرحية هزلية، أبطالها الفساد، حراسها انعدام الأمن، و جمهورها شعب طيب معطاء ترددت ضحكاته تصاحب عبراته ليظنها العالم جزءاً آخر من المهزلة الدائرة.. و الوصف يطول...
من أين أبدأ؟ و أين سأنتهي؟ و ماذا عساني أقول؟ قد علمت أن النياح لن يعيد فقيداً، و أن الصياح لن يرد بعيداً.. تعلقت بالأمل، حاولت، و فشلت، و فشلت.. و لا زلت أحاول و يمني يخبرني أن سلسلة الفشل لن تطول.. و لكن إلى متى؟
إلى متى يا يمني و قد مسحت كرامتي.. رخصت قيمتي.. و صارت أحلامي رماد؟ إلى متى سأبقى ذليلاً أمسح الأرض و أخجل النظر في وجوه الناس لأنني أنتمي إليك؟
كم سمعت من المجاملات: يمني أصل العرب و الأمجاد.. و لكن كل إطراء يتبعه القات.. و الجهل و التخلف و الفساد و الثأر و التسلح و التضخمات.. فكأنما ينحني الناس احتراما لك، ليضربوني من تحت الحزام..
آه كم سئمت من الضرب، حاولت الدفاع.. لم أستطع.. فدروعي مزيفة بوعود حكام همجيين، و لا أملك أسوار سفارة تحميني.. فأبقى في كل مكان شخصاً بلا هوية، بلا قيمة معنوية.. لا أسمع إلا مجاملات، تتبعها خزعبلات.. من واقعنا المرير..
لا.. لا أؤمن بالظلامية، و لا أعرف اليأس.. سئمت من البكاء، و سئمت من الترديد.. حتى شعارات القيم و المبادئ أصبحت شيئاً يشترى و يباع.. فإن قلت وطني قالوا غبي.. و إن تخليت قالوا ناكر للعرفان..
يمني، ما رضيت بالذل لك يوماً و ما رضيت أن أراك تهان..
يمني، لقد تركتك و تخليت.. و لكني عدت و قد تربيت.. ليتني لم أر ما رأيت.. ليتني كنت كابوساً ينتهي بقول "يا ليت"..
يمني.. لعلني قد أسبلت كلامي و أكثرت من غرور أحلامي.. و لكن ما ذنبي؟ ما ذنب الطموح الذي يملؤ كياني؟ ما ذنب العلوم التي عشقتها و جئت بها إليك.. لتتحطم على صخور الجهل و المحسوبية.. لتنمحي براءتي، و تفتح أمامي أبواب التشرد، و العبودية.. لأفقد الأمان الذي لقيته في شوارع العواصم الأخرى.. و أعود مرة أخرى عنصرياً أنتمي لطائفة أو منطقة أو قبيلة، لأشاركهم سلاحهم، علّ القتيل يعود مرة أخرى؟!
يمني.. لعل كلماتي ركيكة و لفظي هزيل.. و لكن ما أقول و حياتي كلها تناقضات.. كلها وعود و مجاملات.. كلها أقوال و حكايات.. لم أجد لها في القواميس معانٍ و لا شروحات..
بين طفولتي و نجاحي، و جوعي و نباحي.. عدت، لأهرب مرة أخرى.. عدت لأزرع في صدري شيئاً سميته إحراق الهوية - أو كما يسمونه تغيير الجنسية..
أتلومني بعد هذا يا يمني؟ أتلومني لأنني زرعت فرعاً في شجرتي كي أستطيع أن أعيش؟ كي أستطيع أن أزهر و أثمر و أغرس أشجاراً أخرى في تربة تغذي أبنائي بالانتماء.. في تربة تساوى فيها التفاح و الزيتون و الحنظل و الزقوم؟ أم تلوم من اقتلع جذوري بعد أن يبست و نضبت عيونها.. بعد أن شرب من دمائي.. و أشعل من فروعي شعلة عله يلاقي شجرة أخرى يمتصها في جنح الظلام..
يمني أحبك و الحب جنون، فإن عدت سأبقى مجنون.. و إن تخليت فجنوني لن يسمح لي بالسكون..
يمني.. خيرني زماني بين الجنون أو الجنون: فاخترت أن أبقى مقيماً في وطني الحنون غربتي، حتى يكبر الجنون:
من جنوني بوطن متعدد..
إلى جنوني بوطن واحد..
يمني.. اختلفت آرائي و تناقضت مواقفي و تزعزت أركاني و انهارت علي الظنون.. يمني.. عشت لأهواك و ما لغيرك سأكون..
يمني أنا ابنك الضرير الهائم.. أنا سلاحك الغريق العائم.. رماني من يسمونهم سادة الزمان.. من يزعمون أنهم أصحاب المكان..
يمني.. لن يطول المزيفون.. لن يطول الخونة المتكبرون.. سيقعون سيقعون.. ستسقط رايتهم العرجاء و حينها سيعلمون:
أننا نحبك و أننا سنعود.. و أننا سنغير معنى الجنون..
سنجتث كل ظالم و نغرس في أرضك الأم الحنون..
أمنا ثورتنا و نضالنا و عشقنا لثراك الطيب..
عشقنا الذي تخطى كل مراحل الجنون...
Bookmarks