اكذبء ثم اكذبء حتى تصدق نفسك فيصدقك الناس وتصبح الكذبة حقيقة لا يكذبها أحد" .. منهج اعتمد عليه الوزير النازي ومهندس الدعاية الألمانية جوزيف جوبلز فنجح في خلق أسطورة النازي الذي لا يقهر.
ومن الناحية النظرية فإن نجاح سياسة جوبلز القائمة على نشر الشائعات ربما كان يعود الى طبيعة العصر آنذاك، وبالتالي كان المتوقع أن تتراجع الشائعات مع الثورة التكنولوجية والاتصالية التي يشهدها العالم حاليا حيث لم يعد هناك شيء يمكن الاحتفاظ به في خزائن السرية، بيد أن الواقع جاء على العكس من ذلك، فقد تزايدت الشائعات وظهرت وسائل أكثر فعالية وتأثيرا في نشر الشائعة على أوسع نطاق ممكن، بدءاً من رسائل "إس إم إس" على الهواتف النقالة، وانتهاءً بالمواقع الإلكترونية مجهولة المصدر على الشبكة العنكبوتية والتي جعلت مهمتها خلق الأحداث والشائعات مستخدمة في ذلك أحدث الوسائل وأكثرها فاعلية وقدرة على تحويل تلك الشائعات إلى حقائق، على الأقل في ذهنية العامة من الناس، تعاونها في ذلك بعض الصحف "الصفراء" التي لا تلتزم بالمهنية والمصداقية ولكنها تسعى فقط إلى زيادة التوزيع وجذب القراء من خلال "مانشيتات" يعرف القائمون عليها مدى كذبها كما يعرفون أنفسهم .. وأصبحنا حاليا نقرأ في تلك الصحف أخبارا منسوبة إلى مواقع إلكترونية لا يعرف أحد طبيعتها أو توجهاتها أو على الأقل المصادر التي استقت منها أخبارها، رغم أن هناك العديد من أجهزة الاستخبارات العالمية وجدت في شبكة الإنترنت الوسيلة الأكثر تأثيرا والأقل تكلفة والأسرع وقتا للترويج لشائعات مقصودة ومدروسة تحقق أهدافا سياسية .. وهذه الصحف في تلك الحالة لا تقع في خطأ مهني وحسب وإنما في شرك نصبه الأعداء لنا.

والخطير أن هذه المواقع المجهولة المصدر تتحرك تبعا لاستراتيجية مدروسة تضم أهدافا مرحلية وأخرى بعيدة المدى، فهي أولا تسعى إلى اكتساب المصداقية لدى القارئ العربي، فتضفي على نفسها السرية والغموض وتنسب جميع أخبارها إلى مصادر رفيعة المستوى أو مصادر استخباراتية لتزيد من أهميتها وتشد انتباه القارئ وتستثير فضوله، وبمرور الوقت قد تنجح تلك المواقع في تحقيق ذلك الهدف، لاسيما أن هناك بعض المواقع بات يستغل ما يعرف بعقدة "ستوكهولم" أو التشبّه بالقاهر وعشق المهزوم للمنتصر والسجين لسجانه، وهي العقدة التي رسختها هزيمة يونيو 1967بعد أن فقدت شعوب المنطقة ثقتها في وسائل الإعلام العربية لصالح وسائل إعلام "العدو" التي باتت في نظر تلك الشعوب هي المرجع الأساسي لقياس المصداقية، فأصبح لدينا مواقع عربية تتبع بعض الأحزاب والتيارات السياسية ولكنها تحمل أسماء يهودية وإسرائيلية لا تهدف من ذلك إلا الى إضفاء قدر من "المصداقية" على ما تحمله من أخبار كاذبة ومختلقة تستهدف في الأساس قيادات في الأحزاب المنافسة والمختلفة معها أيديولوجياً، وهناك العشرات من المواقع العربية التي تحمل لفظ "إسرائيل" لتظهر وكأنها مواقع إسرائيلية.

وبعد أن تنجح تلك المواقع في تحقيق هذا الهدف، وهو اكتساب المصداقية، يصبح الطريق أمامها ممهدا لتنفيذ باقي مخططها بعد أن يتحول أي خبر كاذب أو شائعة ينشرها ذلك الموقع إلى حقيقة واقعة لا تقبل الجدل، ويتحول ذلك الموقع من مجرد وسيلة إعلامية تنقل الأخبار إلى وسيلة لاختلاقها، وأداة للتأثير في الأحداث وتغيير مسارها بما يتوافق مع أهدافها.

الخطورة الأكبر في هذا تتمثل في أمرين: الأول أن خالقي الاشاعات عندما يراقبون انتشارها يبدأون في تصديقها هم أنفسهم، ومن ثم يستبدلون بمعطيات الواقع أوهاماً هم خالقوها وهم ضحايا تصديقها يؤسسون عليها، وتلك كارثة، والثاني أنهم وقد تعلموا من جوبلز درسا في ترويج الاشاعة، لم يتعلموا من التاريخ الدرس التالي، فجوبلز عندما افتضحت أكاذيبه المؤسسة على افتعال الاشاعات انهار مع ذلك الفضح النظام النازي كله، فكيف سيواجه هؤلاء المروّجون الجدد من أصحاب الأحزاب لحظة الانهيار مع بزوغ شموس جديدة للحقيقة؟!
م ن ق و ل