مقدمة كتاب البرهان للإمام الزركشي
قال الشيخ الامام العالم العلامة، وحيد الدهر، وفريد العصر، جامع أشتات الفضائل، وناصر الحق بالبرهان من الدلائل، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي الشافعي، بلغه الله منه ما يرجوه.
الحمد لله الذى نور بكتابه القلوب، وانزله في اوجز لفظ واعجز أسلوب، فاعيت بلاغته البلغاء، واعجزت حكمته الحكماء، وابكمت فصاحته الخطباء.
احمده ان جعل الحمد فاتحة اسراره، وخاتمة تصاريفه واقداره، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وان محمدا عبد ه ورسوله المصطفى، ونبيه المرتضى، الظافر من المحامد بالخصل، ، الظاهر بفضله على ذوى الفضل.
معلم الحكمة، وهادى الامة ارسله بالنور الساطع، والضياء اللامع، صلى الله عليه وعلى آله الابرار، وصحبه الاخيار.
<B>اما بعد، فان اولى ما اعملت فيه القرائح، وعلقت فيه القرائح، وعلقت به الافكار اللواقح، الفحص عن أسرار التنزيل، والكشف عن حقائق التأويل، الذى تقوم به المعالم، وتثبت الدعائم فهو العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، وهو شفاء الصدور، والحكم العدل عند مشتبهات الامور، وهو الكلام الجزل، وهو الفصل الذى ليس بالهزل، سراج لايخبو ضياؤه، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه، وبحر لا يدرك غوره.
بهرت بلاغته العقول وظهرت فصاحته على كل مقول، وتظافر ايجازه واعجازه
وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه، قد احكم الحكيم صيغته ومبناه، وقسم لفظه ومعناه، الى ماينشط السامع، ويقرط المسامع، من تجنيس انيس، وتطبيق لبيق، وتشبيه نبيه، وتقسيم وسيم، وتفصيل اصيل، وتبليغ بليغ، وتصدير بالحسن جدير، وترديد ماله مزيد، الى غير ذلك مما اجرى من الصياغة البديعة، والصناعة الرفيعة، فالاذان باقراطه حالية، والاذهان من اسماطه غير خالية، فهو من تناسب الفاظه، وتناسق اغراضه، قلادة ذات اتساق، ومن تبسم رهره وتنسم نشره، حديقه مبهجة للنفوس والاسماع والاحداق، كل كلمة منه لها من نفسها طرب، ومن ذاتها عجب، ومن طلعتها غرة، ومن بهجتها درة، لاحت عليه بهجة القدرة، ونزل ممن له الامر فله على كل كلام سلطان وامره، بهر تمكن فواصله، وحسن ارتباط اواخره واوائله، وبديع اسارته، وعجيب انتقالته، من قصص باهرة، الى مواعظ زاجرة، وامثال سائرة، وادلة على التوحيد ظاهرة، وامثال بالتنزيه والتحميد سائرة، ومواقع تعجب واعتبار، ومواطن تنزيه واستغفار، إن كان سياق الكلام ترجية بسط، وان كان تخويفا قبض، وان كان وعدا ابهج، وان كان وعيدا ازعج، وان كان دعوة حدب، وان كان زجرة ارعب، وان كان موعظة اقلق، وان كان ترغيبا شوق، هذا، وكم فيه من زوايا وفى زواياه من خبايا ويطمع الحبر في التقاضى فيكشف الخبر عن قضايا فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وصرفه بابدع معنى واغرب أسلوب.
لا يستقصى معانيه فهم الخلق، ولا يحيط بوصفه على الاطلاق ذو اللسان الطلق، فالسعيد من صرف همته إليه، ووقف فكره وعزمه عليه، والموفق من وفقه الله لتدبره، واصطفاه للتذكير به وتذكره، فهو يرتع منه في رياض، ويكرع منه في حياض.
اندى على الاكباد من قطر الندى والذ في الاجفان من سنة الكرى يملا القلوب بشرا ، ويبعث القرائح عبيرا ونشرا، يحيى القلوب باوراده، ولهذا سماه الله روحا، فقال: (يلقى الروح من امره على من يشاء من عباده) ، فسماه روحا لانه يودى الى حياة الابد، ولولا الروح لمات الجسد، فجعل هذا الروح سببا للاقتدار، وعلما على الاعتبار.
يزيد على طول التأمل بهجة كان العيون الناظرات صياقل وانما يفهم بعض معانيه، ويطلع على اسراره ومبانيه، من قوى نظره، واتسع مجاله في الفكر وتدبره، وامتد باعه، ورقت طباعه، وامتد في فنون الادب، واحاط بلغة العرب.
</B>
Bookmarks