سادساً‏:‏ التصور الخاطئ للمجتمع الصالح والإنسان الصالح



يقوم هناك تصور خاطئ، وخاصة في عقول بعض المربين

والدعاة إذ يظنون أن المجتمع الصالح، مجتمع بلا جريمة،

ولا شرور‏.‏‏.‏ والإنسان الصالح إنسان بلا خطيئة‏.‏


وهذا التصور الخاطئ جعل المجتمع المطلوب مجتمعاً مثالياً،

مثالية خيالية لا وجود لها في عالم الواقع‏.‏‏.‏ والإنسان

المطلوب أو المرتجي إنساناً مثالياً ملائكياً لا وجود له، وهذا

التصور الخاطئ أوصل كثيرين من الدعاة والمربين والعلماء

والمصلحين إلى اليأس أو الإحباط وذلك عندما شاهدوا

البون الشاسع بين ما يطمحون إليه ويظنون أنهم بالغوه،

وأنه ممكن التحقيق، وبين الواقع الذي يصلون إليه بالفعل

في التربية والإصلاح‏.‏

وتصحيحاً لهذا المفهوم الخاطئ‏.‏‏.‏ نقول‏:‏ إن إصلاح المجتمع

الإنساني كله، وهداية الناس جميعاً‏.‏‏.‏ أمر مستحيل، بل هو

أصلاً مخالف لسنة الله تبارك وتعالى فقد شاء أن يكون في

الأرض مؤمن وكافر، وأن يكون جنة ونار، وأن تمتلئ هذه

وتلك‏.‏‏.‏ وهذا الأمر جار وفق حكمته ومشيئته سبحانه

وتعالى‏.‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة،

ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت

كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏(‏هود‏:‏118-119‏)‏‏.‏

وقال تعالى مسلياً رسوله صلى الله عليه وسلم ومهوناً


نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء

الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين‏} ‏(‏الأنعام‏:‏35‏)‏

ولذلك فإن الكفر لن يمحى من الأرض ما دام الإنسان

عليها، بل سنة الله أن يبتلي المؤمنين بالمجرمين، كما قال


بربك هادياً ونصيراً‏}‏(‏الفرقان‏:‏31‏)‏‏.‏ هذا في الدوائر الإنسانية العامة‏.‏

وأما في الدائرة الإسلامية‏.‏‏.‏ أعني دائرة أهل الإيمان فإن

الخطيئة والجريمة لم تنقطع من مجتمع المؤمنين مطلقاً،

فولدي آدم قتل أحدهما أخاه، وكتب الله القصاص في

القتلى بين المؤمنين من أجل ذلك‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتل

عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما

ولم يتقبل من الآخر‏.‏ قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من

المتقين‏.‏‏.‏ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي

إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين‏.‏ إني أريد أن تبوأ

بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار‏.‏ وذلك جزاء الظالمين‏.‏

فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، فأصبح من الخاسرين‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏27-30‏)‏‏.‏

وقد عقب الله على ذكر هذه الجريمة بتذكيرنا أن الأخ

الشقيق يقتل شقيقه ظلماً إذا قدر على ذلك‏.‏‏.‏ عقب الله


أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما

قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً،

ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في

الأرض لمسرفون، إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله

ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا، أو يصلبوا أو تقطع

أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم

خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ ‏(‏المائدة ‏:‏32-33‏)‏‏.‏

وكذلك كان مع نوح ابنه وزوجته يتظاهران بدينه وليسا

كذلك، وفي بني إسرائيل يوم كانت أمة مهتدية قائمة بأمر

الله في الأرض كان فيها آنذاك من عبد العجل، ورفض

الانصياع لأحكام التوراة، وطلب من موسى عبادة الأصنام،

واتهم موسى بقتل هارون، ومن آذى موسى، ومن نكل

عن الجهاد والغزو وجبن أمام الأعداء، ومن سرق فقطع،

ومن قتل واتهم الأبرياء بأنهم قتلوا قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وإذ

قتلتم نفساً فادارأتم فيها‏}‏ ‏(‏البقرة ‏:‏72‏)‏ أي درأ كل منكم

التهمة عن نفسه، واتهم غيره وكل ذلك ونبيهم معهم

ورسولهم بين ظهرانيهم‏.‏‏.‏ وكل ذلك أيضاً صدر من المؤمنين

الذين يعيشون في رحاب الوحي، بل ويشاهدون المعجزات

كل يوم أمام أعينهم‏.‏‏.‏ فقد شاهد هؤلاء انشقاق البحر،

وتحول العصا إلى حية، وخروج يد موسى من جيبه بيضاء

من غير سوء، وضرب آل فرعون بالسنين، وتسليط القمل

والضفادع عليهم، وإحياء القتيل بضربة من قطعة من لحم

بقرة مذبوحة‏.‏‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقلنا اضربوه ببعضها كذلك

يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏74‏)‏

ولكنهم مع ذلك كانوا كما ذكر الله‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم من

بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة* وإن من الحجارة

لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه

الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما

تعملون‏} ‏(‏البقرة‏:‏74‏)‏

وكذلك كان في تلاميذ عيسى عليه السلام من وشى به

ودل الحكام الظلمة عليه، وهو يعلم أنهم يطلبونه للقتل‏!‏‏!‏‏!‏



وبالرغم أيضاً من أن مجتمع المسلمين أتباع محمد صلى

الله عليه وسلم كان خير مجتمع، وأصحابه كانوا خير

الأصحاب، وإلا أنه كان فيهم أيضاً من شرب الخمر فجلد،

ومن زنى فرجم، ومن سرق فقطعت يده، ومن أصابه ضعف

فأفشى سر الرسول لأعدائه، ومن اتهم زوجة النبي -برأها

الله- بالزنا ثم جلد، وكان منهم أيضاً من ترك الرسول في

يوم جمعة وهو قائم يخطب عندما سمع أنه قد جاءت

تجارة‏.‏‏.‏ وكذلك كان فيهم البدوي الجلف الذي يبول في

المسجد، ومن يجذب الرسول صلى الله عليه وسلم

بحاشية ردائه حتى تؤثر في رقبته‏.‏‏.‏ وكل هؤلاء كانوا من

المؤمنين الصالحين، وأما المنافقون فقد كان مجتمع المدينة

مليئاً منهم، وهو خير مجتمع وجد على سطح الأرض، وفي

عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد تمالئوا مع اليهود

والمشركين، وخانوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتآمروا

على قتله، وكادوا أن يقتلوه غير مرة، وسبوا الرسول

والمهاجرين‏.‏‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لا تنفقوا على من عند رسول الله

حتى ينفضوا‏}‏ ‏(‏المنافقون‏:‏7‏)‏‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لئن رجعنا إلى

المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏ ‏(‏المنافقون‏:‏8‏)‏‏.‏‏.‏ وقالوا

أيضاً عن المهاجرين‏:‏ ‏{‏ما نرانا وهؤلاء إلا كما قال القائل‏:‏

سمن كلبك يأكلك‏}‏ ‏(‏قالها رأس النفاق عبدالله بن أبي في

غزوة بني المصطلق‏.‏‏.‏ ‏ ومع ذلك فقد كانوا يصلون مع النبي،

ويحجون معه، ويجاهدون الكفار، ويخرجون في الغزو معه،

ويتكلمون فيعجب السامع لكلامهم ويسمع لهم من حلاوة

منطقهم وحلو حديثهم‏.‏

وكان فيهم كذلك الجاهل الأحمق الذي قال‏:‏ اعدل يا محمد

فهذه قسمة منا أريد بها وجه الله‏.‏

ولا شك أن الآفات والجرائم والأخطاء والضعف التي كانت

بعد ذلك في مجتمع الراشدين، ومن بعدهم، كانت أعظم

من هذا بكثير، والمقصود من كل ذلك‏.‏‏.‏ التنبيه على أن

المجتمع الصالح ليس مجتمعاً تختفي منه الجريمة، ويمحي

منه الشر، وتزول منه الأثرة والطمع والشح والبخل زولاً

كاملاً‏.‏‏.‏ كلا‏.‏‏.‏ فإن مثل هذا المجتمع لا وجود له في عالم

الواقع‏.‏

ولكن المجتمع الصالح هو الذي لا يقر هذا الباطل، ويعمل

على تلافيه وعلاجه، فالجريمة مسيطر عليها، نافذ حكم

الله في أصحابها‏.‏‏.‏ والضعف يعالج بما يناسبه‏.‏‏.‏ شدة ولينا،

ومسامحة وتنكيلاً‏.‏ حسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية،

ويتطلبه الموقف‏.‏

والمقصود من سرد ذلك كله أن نبين الجانب الآخر من

الصورة‏.‏ وذلك أن عرض المواقف الحسنة والجوانب المثالية

الطيبة‏.‏‏.‏ وذلك أن عرض ينظرون إلى المجتمعات الفاضلة

نظرة غير واقعية، وغير صحيحة، ولذلك فقدوا الأمل في

إصلاح مجتمعاتنا المعاصرة التي تعج بالفساد، واعتقدوا أنه

يستحيل الوصول إلى الصورة التي تخيلوها‏.‏‏.‏ فانصرفوا عن

الدعوة والعلاج، بل وقعت طوائف منهم عن الإيمان وهلكت

أيضاً عندما رأوا أن أشخاصهم وذواتهم لا يمكن أن ترتقي

للمستوى الذي تخيلوه للفرد الصالح‏.‏‏.‏ ولو عرف هؤلاء

حقيقة النفس البشرية لم ييأسوا من علاج أنفسهم

وغيرهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض

ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا

بالحسنى* الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم،

إن ربك واسع المغفرة، هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض،

وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم

بمن اتقى‏}‏(‏النجم‏:‏31-32‏)‏‏.‏

فجعل الله الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون الكبائر وتقع

منهم الصغائر التي يغفرها الله، وهذا هو المحسن وكذلك

أدخل الله في جملة المتقين من يفعل فاحشة ثم يتوب

منها‏.‏‏.‏ كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وسارعوا إلى مغفرة من

ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏133‏)‏‏.‏
ثم وصف الله سبحانه هؤلاء المتقين فقال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون

في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس،

والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا

أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا

الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، أولئك جزاؤهم

مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين

فيها، ونعم أجر العالمين‏}‏‏.‏