رد: التدين والصحة النفسية
الخوف من الموت
من المعلوم أن من أهم أنواع القلق لدى الإنسان الخوف من الموت؛ فالموت الذي هو خارج إرادة الإنسان يبعث في نفس كثير من الناس القلق والخوف. ومع ذلك فالخوف من الموت يختلف من شخص لآخر. وهناك عوامل عديدة تؤدي إلى زيادة الخوف من الموت أو قلته. ويأتي على رأس هذه العوامل مستوى التدين والإيمانُ بالآخرة والروحانيةُ والعمر. ففي دراسة أجريت على 132 امرأة و 64 رجلا تتراوح أعمارهم بين 18-80 توصل الباحثون إلى أن العامل الحاسم في الخوف من الموت هو النضج النفسي-الاجتماعي، ويليه في التأثير عامل العمر. وأظهرت هذه الدراسة أنه كلما ارتفع مستوى النضج الاجتماعي والعمر يقل معدل التعرض للقلق والخوف من الموت. (13)
وفي حين أن العقائد والتصرفات والمواقف الدينية تحول دون الوقوع في الأوضاع السلبية كالاكتئاب والانتحار والقلق، أو تعدمها تماما، تكون وسيلة لأن يكون الأفراد في وضع أفضل من حيث الصحة النفسية.
وإليك نماذج من بعض الدراسات التي أجريت في هذا المجال:
الدين والتفاؤل
هناك دراسة أجريت حول العلاقة بين العقائد والتطبيقات الدينية وبين الشعور بالأمل، فأسفرت 12 من أصل 15 عملا عن وجود علاقة إيجابية بدرجة مهمة بين الأمرين، بينما أسفر عملان عن عدم وجود أي علاقة بينهما. ولكن لم يسفر أي عمل عن أن المتدينين هم أقل تفاؤلا وأملا من غير المتدينين. (14)
ومن أهم إسهامات الدين في الصحة النفسية هو الشعور بالتفاؤل. فقد قام (Peterson) و(Seligman) و(Vaillant) بدراسة على 100 من خريجي جامعة "هارفارد" فتوصلوا في النتيجة إلى أن الذين كانوا متشائمين في مرحلة شبابهم، كانوا بعد (20-30) سنة أسوأ من الناحية الصحية من المتفائلين.
وكذلك ثبت أن هناك فرقا حوالي 7-7.5 في العمر بين ذوي الشخصية الإيجابية وذوي الشخصية السلبية. وبتعبير آخر: إن الذين يتحلون بشخصية ذات نظرة إيجابية هم أطول أعمارا من غيرهم لمدة 7-7.5 عاما. فالباحثون يشرحون هذا الأمر بقوة حب الحياة لدى هؤلاء الأفراد، وتركيزهم على الجوانب الإيجابية لمرحلة الشيخوخة.(15)
وقد قام (Plante) وزملاؤه ببحث على 242 طالبا جامعيا يقيمون في مناطق مختلفة، ويعتنقون مذاهب دينية مختلفة ، ويدرسون في مؤسسات تعليمية مختلفة، فوجدوا أن نسبة إضفاء المعنى على الحياة والتفاؤل ومساعدة الغير ورؤية الحياة على أنها صراع بالمعنى الإيجابي، أعلى في أوساط الطلبة الذين يتمتعون بعقيدة قوية، وبالمقابل فنسبة تعرض هؤلاء للاكتئاب والقلق أقل من غيرهم.(16)
الدين والسلامة النفسية
من المعلوم أنه بتقدم العمر يتوقف التحسن في الصحة البدنية والنفسية فيأخذ شكلا ثابتا أو يتجه نحو الأسوأ. ومع أن هذا الوضع أكثر عند الرجال، إلا أنه يختلف من شخص لآخر. فإنه في حين أن البعض يتأقلم بشكل جيد مع أعراض الشيخوخة كالأمراض المزمنة وحالات الضعف والاحتياج إلى مساعدة الغير، يتأثر آخرون سلبيا. فالباحثون يرون أنه في مثل هذه الحالات يكون للدين والحياة الروحانية دور كبير من حيث الصحة النفسية.
فقد أثبتت التجارب أن هناك علاقة بين العقائد والأعمال الدينية وبين سائر المؤشرات على كون الإنسان يلبي رغبته في الحياة ويحظى بالسعادة وبمعنويات عالية. فهناك 100 دراسة حول العلاقة بين هذه العناصر البناءة أسفرت 80% منها عن وجود علاقة إيجابية بينها فعلا، بينما أظهرت 10% منها احتمال وجود علاقة بين العقائد والأعمال الدينية وبين السلامة النفسية، و 9% منها أنه سيكون الدين وسيلة لتمتع الذين خضعوا للدراسة بسلامة نفسية كبيرة في المستقبل.(17)
وقام (Kirby) و(Coleman) و(Daley) بدراسة على 233 شخصا تتراوح أعمارهم بين 65-95، فوجدوا أن للشيخوخة وأعراضها السلبية تأثيرا سلبيا على السلامة النفسية بشكل عام وبدرجة مهمة، إلا أنهم وجدوا -في نفس الوقت- أن للتدين والعقائد الروحانية تأثيرا مباشرا -أو بالواسطة- على إزالة هذه السلبيات والحفاظ على السلامة النفسية. ووجدوا أن للدين والحياة الروحية تأثيرا قويا على تحكم الفرد في البيئة وعلى تطويره الذاتي وإنشائه علاقات إيجابية مع الآخرين، في حين أن تأثيره على التقبل الذاتي، وإضفاء المعنى على الحياة، وروح الاستقلالية أقل نسبيا. والحقيقة أن هذه النتيجة بمثابة تأييد للعديد من الدراسات التي أجريت في هذا المجال.(18)
وكذلك قام (J. S. Levin) و(K. S. Markides) و(L. A. Ray) بدراسة استغرقت 11 عاما، على ثلاث مجموعات من الشباب ومتوسطي العمر والمسنين عدد كل مجموعة 375، يتشكل مجموعهم من 1125 شخصا حول تأثير المواظبة على العبادة، فتوصلوا إلى نتيجتين مهمتين:
إن هناك ارتباطا مهما بين المشاركة في أداء العبادات وبين الرضى عن الحياة، والحد من الوقوع في الاكتئاب؛ ففي حين ظهر لدى متوسطي العمر والمسنين أن هناك علاقة بين المواظبة على أداء العبادات وبين الرضى عن الحياة، ظهر لدى الشباب أن للعبادة تأثيرا إيجابيا عليهم من حيث التأثير على الاكتئاب.
وعلى الرغم من أن الباحثين لم يعثروا على علاقة مباشرة بين المواظبة على أداء العبادات وبين الرضى عن الحياة، إلا أنهم يرون أن ذلك يكون في المدى البعيد بمثابة منبع للحفاظ على الاستقرار الروحي، وبتقدم العمر-على الخصوص-تشكل المشاركة في الأعمال الدينية أساسا مهما لإضفاء المعنى على حياتهم.
وهذا الوضع يكتسب أهمية كبرى فى حال تدهور الحالة الصحية في فترة التقاعد، أو في حال التخلي عن الأعمال والأدوار الرسمية المؤسسية. خصوصا وإن مشاركة المسنين في أداء العبادات تكون وسيلة لاستفادتهم من الخدمات الاجتماعية التي توفرها لهم المؤسسات الدينية من جهة، وتؤدي إلى الرضى الذاتي من جهة أخرى. وأيضا فالمواظبة على العبادات -من حيث إنها تقلل من الأسباب المزمنة والقوية التي تورث الضغوط النفسية- فهي تشكل منبعا مهما لشعور الأفراد بصحة نفسية. (19)
النتيجة
على الرغم من أن بعض الجهات لم تتقبل وجود الدين وحاولت تهميشه، إلا أنهم لم يفلحوا في ذلك على مدى التاريخ، لأن الدين واقع طبيعي ومؤثر في حياة الإنسان ولا ينفك عنها؛ ففضلا عن دور الدين باعتباره منظما لحياة الفرد والمجتمع من خلال مبادئ وقوانين أخلاقية، يتضح جليا -بمرور الأيام وبالدراسات العلمية التي تُجرى- أن له جوانب مفيدة على الصحة البدنية والنفسية. فهناك دول عديدة -وعلى رأسها الدول التي وصلت إلى أوج النمو الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي- أخذت تطبق شتى الأساليب البديلة عن الطب الحديث. وللدين موقع مهم من بين تلك الأساليب؛ فالدين بما يضع من أسس اعتقادية وعملية، يقدم أسلوب حياة صحية، وعن طريق الدعم الاجتماعي يشجع الوحدة والسعادة الاجتماعية، ومن خلال الدعاء يحد من القلق والضغوط النفسية، وبفتحه للناس أبواب الأمل والرجاء يضفي على الحياة المعنى والهدف.
والحاصل أن معظم العلماء [الغربيين] -ناهيك عن إنكارهم لما للدين من الأثر الإيجابي على الصحة النفسية- يتناقشون لزوم اهتمام علماء الطب الحديث لهذه الظاهرة، ويرون أنه ينبغي للأطباء أن يأخذوا بنظر الاعتبار قيام مرضاهم بعباداتهم الدينية.
وأخيرا؛ لابد هنا من التنبيه إلى أمر هام وهو أنه إذا كانت الأديان التي ابتعدت عن روحها السماوي تؤثر كل هذا التأثير المهم على الأفراد في المجتمعات الغربية، فليس من المبالغة الحديث عن مدى التأثير الإيجابي للدين [الإسلامي] الذي هو خاتم الأديان والدين الأكمل، على منتسبيه ومعتنقيه.
ــــــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: أجير أشيوق.