آفة التكفير
بقلم : د. محمد عمارة
هناك شكوى من مسارعة بعض دوائر الفكر والفتوى إلى تكفير المخالفين من أهل القبلة، الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ..
والناظر في تراثنا الإسلامي ـ القديم منه والحديث ـ يلحظ قدم هذه المشكلة..وقدم الشكوى من هذه المسارعة إلى التكفير...والإسراف في تكفير المخالفين...
ولقد تحدث حجة الإسلام أبو حامد الغزالي {450-505هـ 1058-1111}عن هذه القضية في عصره ـ وأشار وهو احد أئمة الأشعرية ـ إلى نزوع بعض الفرق الإسلامية إلى تكفير الفرق الأخرى ..فقال :" إن للفرق في التكفير مبالغات وتعصبات وربما انتهت بعض الطوائف إلى تكفير كل فرقة سوى الفرقة التي ينتمي إليها ...لأن كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام فالحنبلي يكفر الأشعري زاعما أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على العرش والأشعري يكفره زاعما أنه مشبه وكذب الرسول في أنه ليس كمثله شيء والأشعر يكفر المعتزلي زاعما أنه كذب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له والمعتزلي يكفر الأشعري زاعما إن إثبات الصفات تكثير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد ".
وبعد أن عرض الغزالي صورة هذه "المبالغات والتعصبات" في تكفير المخالفين ..أعلن إنكاره لامتلاك فريق واحد كل الحق دون سواه ....وقال :"ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفا على واحد من النظار بعينه فهو إلى الكفر والتناقض أقرب ..فيجب أن ترعوى عن تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله صادقين بها غير مناقضين لها ...فالمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ..".
ولقد ميز الغزالي بين تكذيب الرسول ـ الذي هو الكفر ـ وبين التأويل ...فالمتأولون ـ حتى لو اختلفنا معهم ـ ليسوا بمكذبين ...وضرب المثل بالمعتزلة والمشبهة فقال " فالمعتزلة والمشبهة والفرق كلها ...مصدقون للرسول ..ولكنهم مخطئون في التأويل فأمرهم في محل الاجتهاد ...ودليل المنع من تكفيرهم أن الثابت عندنا بالنص تكفير المكذب للرسول وهؤلاء ليسوا مكذبين أصلا ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير فلابد من دليل عليه والعصمة مستفادة من قول لا إله إلا الله قطعا فلا يدفع ذلك إلا بقاطع ..ولا يلزم كفر المتأولين وما من فرقة لأهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه ..".
كذلك تحث الغزالي عن خطا التكفير للمتأولين الذين يسارعون إلى التأويل من غير برهان قاطع ...فقال :"ومن الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ولا ينبغي أن يبادر أيضا إلى كفره في كل مقام بل ينظر فيه فإن كان تأويله في أمر لا يتعلق بأصول العقائد ومهماتها فلا تكفره" ثم وضع الغزالي قاعدة التمييز بين أصول الاعتقاد ـ التي يردد فيها التكفير ـ وبين الفروع التي لا تكفير فيها فقال :" إن النظريات قسمان قسم يتعلق بأصول القواعد وقسم يتعلق بالفروع وأصول الإيمان ثلاثة : الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الأخر وما عداه فروع واعلم انه لا تكفير في الفروع أصلا إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر ".
ولقد ختم حجة الإسلام الغزالي حديثه النفيس هذا بالتحذير من التكفير لأحد من أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله " وقال :"إن الاحتراز من التكفير واجب ما وجد المرء إليه سبيلا فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم ..."
نعم ..لقد كتب الغزالي هذه الوثيقة التي يجب أن يدرسها الدارسون ويشرحها الشارحون لمحاصرة آفة التكفير.
نقلا عن صحيفة المصريون
